كانت سعادة الوالد كبيرة عندما بدأ يلمس أن ابنه أصبح يعتقد أن الشعب بعث رسالته لكلا الطرفين مضمون الأولى كان دعم للإتحاد من أجل الأغلبية الرئاسية ودعوته إلي الاستمرار علي نهجه وبذل المزيد من الجهود التي تعكس طموح المواطن في التنمية وصنع الرفاه والازدهار ومضمون الثانية دعوة للتحالف المعارض بالكف عن الهروب غير المقنع عن استحقاقات المرحلة والقفز على المعطيات الموضوعية واستنساخ تجارب أخرى بصورة تعسفية ربت الوالد على كتفه بحنان أبوي واضعاً ابتسامة عريضة على وجهه وهو يتمتم : ألا تشاطرني الاعتقاد في كون المطلوب هو التزام الجميع بفحوى هذه الرسالة وبعد أن سكت هنيه ومسح على خده ومن خلال تنفس عميق هتف: وهذا ما أخشي عدم حدوثه وهنا مربط الفرس ضحك الوالد على رد محمد وخاصة عندما تذكر ما جرى بينهما من حوار حول هذا الموضوع ليقول له: أعتقد أنه لا داعي لأردد ما قلته سابقاً إلا أني أقول لك التفاؤل خير من التشاؤم واضعاً وجهه بين يديه أليس كذلك رد محمد وهو يضحك: ربما
الوالد: وهو متأهب للخروج أنا ذاهب الآن إلى عمك وسوف أحدثه بأمرك لعله يجد لك عملاً أنسب وأريح وبعد أن غادره الوالد جلس محمد لوحده في البيت وطفق يسترجع ما جرى بينه وبين والده من حوار وما أن نظر إلى الساعته حتى وجد أن موعد دوامه المسائي قد حان فحزم أغراضه وتوجه إلى مقر عمله وفي زحمة العمل ومشاغل تفاصيل الحياة اليومية نسى تداعيات الانتخابات وأصداءها وما كان يساوره من مشاعر متقلبة ولم يمضي وقت طويل ليأتيه والده يوماً ويبلغه بأن عمه يطلب منه ملفه ليسجله ضمن قائمة المبتعثين للدراسات العليا إلى إيطاليا وكان فرحه كبيراً بهذه الفرصة فأسرع بتقديم ملفه ولم ينتظر طويلاً فقد قام عمه بتخليص الإجراءات بسرعة ليسافر بعد أسبوع فقط.
منذ وصوله إلى هناك إلى إيطاليا التي كان يقيم في عاصمتها روما ودخوله إلى جامعة حتى بدأ يجد في تحصيله ويبذل قصارى جهده في إكتساب العديد من المهارات إلى جانب دراسته حتى أصبح يعرف زملائه بالطالب المثالي .في البداية كانت اللغة الإيطالية التي لم يكن يعرفها تعوقه من الاحتكاك بالمجتمع ولكنه تمكن من إجادتها بالجهد والمثابرة والعزيمة وبعد مرور ثلاثة أشهر تعرف على فتاة إيطالية تدعى ( سينيوريتا ) كانت هذه الفتاة تتمتع بجمال غير عادي ببشرتها البيضاء المشربة بالحمرة الخفيفة وخدودها المتوردة وعيناها الحالمتان وشعرها الذهبي المنسدل المتدلي وقوامها الممشوق وفمها الصغير المستدير وصدرها الخافق بالحياة بضة ناعمة الملمس وإلى جانب هذا الجمال الساحر الذي يخطف الأبصار كانت تتميز بحديثها الشيق ولباقتها الكبيرة وذوقها الرفيع وبصفائها وبراءتها مما جعلها محط اهتمام الجميع وتسابقهم في التقرب إليها وكانت سينيوريتا
تلاحظ هذا الاهتمام دون أن تحاول استغلاله
وكان محمد هو أكثر من يهتم بها فمن الوهلة الأولى بدأ يشعر نحوها بالإعجاب الشديد وملامح الافتتان بها كانت تظهر عليه بوضوح في كل مناسبة وسرعان ما تحول هذا الإعجاب إلى حب جارف ملك عليه قلبه حتى أصبح يعد اللحظات التي تجمعه بها من أسعد اللحظات
وأصبحت صورتها لا تفارق خياله في اليقظة والمنام وأحاديثها تطن في أذنيه بين حين وآخر ومر عليه وقت طويل دون أن يجرؤ على البوح بما يكنه لها من حب وما يكابده في غرامها كان يحبها حباً صامتاً أسطورياً وكان جميع زملائه يلاحظون هذا الحب حتى أن بعضهم عرض عليه المساعدة وشرح ظروفه لمحبوبته لكنه دائماً كان يشكرهم ويمنعهم من ذك ولم تكن سنيوريتا بغافلة عما يجري ولكنها لم تكن تبدي شيئاً وإن كانت تشعر نحوه بنوع من الارتياح ربما لدماثة أخلاقه واختلافه عن بقية زملائه إلى جانب ما كان يظهره لها من الاهتمام والعناية وربما لتميزه الدراسي ولكن هذا الارتياح بدأ يتطور مع مرور الأيام ليصبح انجذابا لدرجة أنها سارت تشعر بالضيق والضجر إذا افتقدته وأما صاحبنا فقد سار يصبح ويمسي ويبيت ولا هم له سوى التفكير فيها والتفكير في الطريقة التي يبوح بها عن المعاناة التي يكابدها في حبها ومضت عليه أيام وليالي في هذا التفكير يصل الليل بالنهار دون أن يهدأ له بال أو يغمض له جفن وبعد كفاح مرير قرر أن يضع الأمر بين يدها و لكنه ما أن وصل إليها وجلسا وجها لوجه حتى شعر أن عزمه يخور وأن شجاعته تتلاشى ويضيع منه الكلام فبدأ يحرك شفتيه دون أن يقول شيئاً فلاحظت ( سنيوريتا ) أنه كان يريد أن يبوح لها بشيء ولكن لم تواته الشجاعة فرأت أن تساعده وتشجعه فطبعت على ثغرها ابتسامة مشرقة أضاءت المكان وهفالها قلب محمد ورقص في أحشاءه وبادرته بقولها : اسمع يا محمد أن أحسست بأنك أردت أن تقول لي شيئاً ولكنك ترددت لا أدري لماذا فقل ياعزيزي ما حلي لك إني مصغية إليك بدأ محمد يغمغم وقد تصبب عرق غزير من ناصيته مع أن الجو كان بارداً شديد البرودة وعرته لعثمة : أنا يا( سنيوريتا ) أنا .... وسكت من جديد وقد كانت هذه البوادر التي طرأت عليه مثيرة لاستغرابها بقدر ما أثارت شفقتها فوضعت يدها على كتفه تربت عليه بحنان وهي تتمتم : ما لك يا محمد مالك ياعزيزي أنت ماذا .. أنت ماذا مالذي دهاك وبصعوبة بالغة وبجهد جهيد هتف أنا ( أحبك ) والدموع تتقاطر من عينه دموع القهر لضعفه من البوح بمشاعره ودموع الفرح لإفصاحه عن هذه الكلمة الصغيرة التي عذبته كثيراً
فتأثرت بالموقف ولم تقدر على تمالك نفسها فرمت بنفسها في أحضانه وأخذت وجهه بين يديه وأغرقته بالقبلات متمتمة يا حبيبي يا محمد وأنا أيضاً أحبك أحبك قدر الكون وأكثر ولم يتمالك محمد نفسه فأجهش بالبكاء وبللت الدموع أهدابه دموع الفرح والنصر وجلسا يتناجيان طويلاً غائبين عما حولهما وعن مرور الوقت ومنذ هذا اليوم لم يفترقا ولو للحظة حتى جاء ذلك اليوم يوم تخرجه وانتهاء مدة منحته حيث أقام له زملائه حفلة وداع وفي بيت حبيبته فبقيا معاً الليل كله قضياه في الرقص والحديث يبكيان تارة عندما يتذكران بأنه لا يفصل بينهما وبين الفراق سوى ساعات معدودة وتارة يضحكان وأصبح الصباح ومعه حان موعد الحضور إلى المطار وتوجها نحو المطار وقد غطي الوجوم على الجميع وفي المطار حانت ساعة الفراق فأقبلت عليه لتودعه وأقبل عليها ليودعها وتعانقاً وقد أطلق كل منهما العنا ن للدموع وأجهشا بالبكاء من فرط الحزن ولوعة الفراق وما أن ينفصلا حتى يتعانقا من جديد ومكثا على ذي الحالة من الزمن غير يسير حتى نادي عليه موظف المطار قائلاً أسرع يا سيدي فالطائرة على وشك الإقلاع فافترقا وكل واحد منهما يعد صاحبه باللقاء وجرى هو صوب صالة المغادرة مشيرا لها بيده وهو يهتف وداعاً وداعاً وقد احمرت عينية من كثرة البكاء وتبللت أهدابه بالدموع.
ولم تكن ( سنيوريتا ) بأحسن حال فلم تقو على حمل نفسها فتحاملت على زملائها الذين ساعدوها على مغادرة المطار شعور طاغي بأنها بفراق محمد فقدت كل شيء كان يسيطر عليها
أما محمد فقد كان طوال الرحلة شارداً عما حوله يعيش على شريط الذكريات وعندما وصل إلى مطار جيبوتي تحرك من مقعده لينزل من الطائرة وما إن وصل إلى سلم الطائرة وألقى نظرة على المطار فأنكره ولم يستطع التعرف عليه فوقع في روعه بأنه في ترانزيت ليعود إلى داخل الطائرة ففوجئت المضيفة بعودته واستغربت لعدم نزوله مع أن وجهته كانت جيبوتي فاستفسرت عن سبب رجوعه نظرتي للمطار بينت بأننا في مطار آخر فردت عليه : لا يا سيدي أنت فعلاً في مطار جيبوتي عارضها بشدة قائلاً غير معقول يا سيدتي فأنا أعرف مطار جيبوتي فهو أولاً ليس كبيراً بهذا الحجم وثانياً أنه لم يصل إلى هذه الدرجة من التطوير والتحديث وأن هذا المطار شبيه بمطارات الدول المتقدمة
يبدو أنك غبت عن المدينة لفترة طويلة فصدقني أن هذا المطار جيبوتي وستعرف الحقيقة عندما تنزل هز رأسه فاغرفاه مأخوذا بما تراه عينه وتمتم ! إنه إنجاز عظيم حققته بلادي إذا كان هذا حقاً مطار جيبوتي فنزل فوجد ما قالته حقيقة ولما غادر المطار وهو منبهر غاية الانبهار بما لحقه من تطوير وتحديث وتوسيع وفي طريقه إلى منزله وهو راكب سيارة أجرة طرق سمعه ضجيج كبير ولما استفسر عن مصدره أخبره السائق بأنه صادر من مصنع للمواد الإلكترونية وآخر للأسمنت وآخر للزيت بنته الحكومة منذ ثلاث سنوات وقد قضى نسبياً على مشكلة البطالة وعلق محمد بقوله إن خمسة أعوام التي قضيتها في الخارج يبدو أن البلاد قد شهدت فيها إنجازات مهمة وتطوراً نوعياً ونقلات كبيرة وعندما وصل إلى حيه أوقف الساق في المكان الذي وصفه له في المطار إلا أن محمداً لم ينزل إذ أنه لم يتعرف على المكان حيث وجد الأرض مسفلته وانه لا أثر للبالوعات التي كانت تخرب حيه وتشوه صورته فلم يكن انبهاره بهذا التطور بأقل من انبهاره بالتطورات الأخرى وعلى البابا استقبله أفراد أسرته وهم فرحين بعودته حامدين الله على سلامته فعانقوه الواحد تلو الآخر وما أن جلس على كرسيه حتى بشره والده بافتتاح كلية للصناعة في الجامعة إلى جانب عدد كبير من الكليات قد افتتحت في غيابه وطالبه بأن يحمل ملفه إلى الجامعة وكانت سعادة محمد بهذه الإنجازات الكبيرة في هذه الفترة الوجيزة لا حدود لها ولاحظ الوالد ما يعتمل في قلب ولده فباغته بقوله ألم أقل لك ياولدي منذ زمن بعيد بأن الحكومة جادة في وعودها محمد وهو يضحك القول قولك ياوالدي فقد كنت فعلاً نافذ البصيرة سليم التقدير وأشهد بأني كنت خاطئاً في تقديراتي وأشهد أن ما تحقق كثير ورائع والآمال معقودة علي المزيد.
جمال أحمد ديني
التسميات
قصة