بين العقل والدين والحياة.. الناس في زماننا يعتقدون، ثم لا يفكرون، أو يفكرون فيما يجعلهم لا يفكرون

الدين، إن كان صِدقُه قد عُلِمَ بالعقل، فالعقل إذن صادق الحكم في رأي الدين، وله، إذن، أن يحكم عليه في كلِّ الأوقات، لأنه هو شاهده. ولو شككنا، مع هذا الافتراض، في العقل لكان هذا تشكيكًا في الدين نفسه على ما سبق.
إن الذي يعرف الله ووجوده بعقله يجب أن يعرف بعقله كلَّ شيء.
العقل لم يُستشَر في الأديان، وإنما أُخِذَتْ بالتلقين والتتابع. فالذين يولدون في أيِّ دين يكونون من أهله.
الناس يجدون أديانهم كما يجدون أوطانهم وأرضهم وبيوتهم وآباءهم؛ يجدونها فقط ولا يبحثون عنها أو يؤمنون بها أو يفهمونها أو يختارونها.
الناس في زماننا يعتقدون، ثم لا يفكرون، أو يفكرون فيما يجعلهم لا يفكرون.
لو كانت الأديان خاضعة لحكم العقل لضاقت الخلافاتُ فيما بينها وتناقصتْ، أو لتداخلتْ وتوحَّدتْ كلُّها في دين واحد كالذي حدث في الموضوعات الصناعية والعلمية التي ابتكرها العقل؛ أو لوجدنا المؤمن يخرج من دين إلى دين بالسعة والسهولة التي ينتقل بها من فكر إلى فكر، من موضع إلى موضع.
الأديان لا تنتصر إلا في المعارك التي تتجنبها. فهي لا تحارب بالعقل ولا تحارب العقل، أي لا تدخل مع العقل في معارك حرة – ولهذا ظلت منتصرة!
إن السماء، لو أرسلت لنا كلَّ أنبيائها ينهوننا عن الإيمان ويحرِّمون علينا كلَّ عبادة، لعصينا كلَّ الأنبياء وبقينا نؤمن ونصلِّي ونتعبد. فالعبادة استفراغ روحي، وعملية جنسية تؤديها الروح لحسابها، لا لحساب الآلهة.
أردنا، فتصورنا، فاعتقدنا، فاقتنعنا.
إن العقل الذي لا يتناقض هو العقل الذي قد مات. ولا يحتمل أن يثبت أيُّ إنسان حياته كلَّها على حكم واحد.
العقل يتغيَّر لأنه شيء قوي. فالشيء القوي لا يثبت على حال. والقوي أكثر تغيُّرًا من الضعيف وغير الشيء. غير الموجود هو الدائم الثبات، لأنه لاشيء.
تناقُض العقل ليس ضعفًا فيه، لكنه يعني أنه يعمل في عدة ميادين وينظر إلى كلِّ الجهات. والعقل هو الذي يدرك تناقض العقل. فالتناقض وإدراك التناقض أسلوبان عقليان. وهو يدرك سخف العقل وهزائمه. العقل، ناقدًا ومنقودًا، هو كلُّ المعرفة.
الخرافة تدعو إلى الدوام؛ والخرافة أكثر دوامًا من الحقيقة.
العقل عمل الوجود الحسي.
إذا حَكَمَ العقلُ فحكمُه أن يرى الحركة فقط ويفسِّرها.
الكونُ ومنطقُه هما الله ومنطقُه. ماذا لو طالب البشر حكَّامهم أن يحكموهم بمنطق الكون؟!
الآلهة لا تستجيب لمن يدعونها ويُصلُّون لها، إنما تفعل الواجب والحق. إذن لماذا تُدعى ويُصلَّى لها؟ وهل يُدعى النهر ويصلَّى له ليفعل ما هو فاعل؟!
أيُّ خالق هذا الذي يجعل مخلوقَه محتاجًا للعذاب والتلوث والمعاناة والأحزان ليكون مخلوقًا سعيدًا؟!
إن الذي يصنع الشرَّ، وهو غير محتاج إليه ويستطيع أن لا يفعله، شرٌّ جدًّا من الذي يفعله وهو محتاج إليه وعاجز أن لا يفعله.
الذي تكون شريعتُه فرضَ المثالية، كيف تكون حكمتُه الخروجَ على المثالية؟!
كيف يعاقِبُ الإلهُ على فعل أشياء هو يفعلها – مع أن الناس يفعلونها بالشهوة والضرورة، وهو يفعلها بلا شهوة ولا ضرورة؟!
أنت ومخالفك، كلٌّ منكما يرى ما لديه هو المنطق، كلٌّ منكما يرى شيطانه هو القديس، كلٌّ منكما يرى الله معه وحده.
إذا طلبتَ أن يكون الآخرون منطقيين كنت تعني أن يكونوا متلائمين معك، متَّبعين لك، مسلِّمين برأيك. ومَن وقف عند منطقه بعناد وقف عند ذاته بعناد.
الذين لا يخضعون للمنطق هم الذين يصنعون المنطق. أما الذين يخضعون للمنطق فسيظلون بلا منطق، لأن المنطق الذي يخضعون له سيحرِّم عليهم كلَّ منطق.
لا يوجد منطق متعصِّب ومنطق متسامح، بل يوجد قومٌ متعصِّبون وآخرون متسامحون. فمنطقنا هو صورتنا، ولسنا نحن صورته.
المنطق، كما كيفما كان، ليس موجودًا في ذاته، وليس منفصلاً عنَّا ولا متحققًا في الشيء نفسه، إنما هو علاقة تصورية تقوم بين الكائن وذاته وبينه وبين ظروفه الخارجية.
إن الشرير جدًّا يستطيع أن يكون فاضلاً جدًّا، وذلك بأن يبالغ في الثناء على الله وعلى الأمجاد القومية التاريخية الخالدة، بينما يحتقرها في سلوكه بكلِّ أساليب الاحتقار.
"إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك" – إذن كيف يغفر لمن ينكرُ وجودَه؟!
أليس الملحدون الذين يعيش على عبقريتهم المؤمنون أعظم فضيلة وتديُّنًا من المؤمنين الذين يعيشون دائمًا على ذكاء غيرهم وقوتهم؟
الفاسق في عرف الدين، مهما كان نوع فسقه، ليس شريرًا كالمفكر المخالف في تفكيره.
العقائد القوية هي دائمًا جند مخلصون للطغاة والمستغلين. والجماهير هي، كما تُحكَم بالجيش القوي، تُحكَم أيضًا بالخرافة القوية.
إنه لصعب جدًّا أن تفعل دائمًا ما يرضي الناس. ولكن ما أسهل أن تعتقد أو تقول ما يرضيهم!
إن أيَّ داعية أو حاكم أو زعيم عرفه العالم بأنه أعظم من رفع راية الدعوة إلى الدين والفضيلة، لو حوكم بنصوص ذلك الدين وبتلك الفضيلة أو بروحها، لكان الإعدام جزاءه المتواضع.
كلُّ الذين يؤمنون بالله يؤمنون به كميت، كمصلوب.
ليست المعابد الكثيرة، في كلِّ مكان وعصر، إلا قبورًا للآلهة.
وهل عزاء الآلهة أن يذهب عصاتُها إلى مقابرها لكي يبلِّلوها بالدموع الكاذبة؟!
أشد الناس حماسةً للأديان هم الذين لا يتعاملون مع إيمانهم.
نحن نعتقد لأننا عصاة؛ نحاول تحقيق معاصينا تحت شعار مقبول، لا لأننا أتقياء.
إنني أفضِّل الرجعيَّ المستقيم على المتحرِّر المنحل.
ضمير الحضارة يبحث في المستقبل عمَّن يستقيم بلا عقيدة، لا عمن يعتقد بلا استقامة.
جميع الكائنات المعروفة لنا – عدا الإنسان – تعيش بالحقيقة – والإنسان وحده تقتله الحقيقة؟!
الإنسان الذي يموت دفاعًا عن مبدأ، أو في سبيل شيء، ليس إلا إنسانًا يعشق ذاته إلى حدِّ القتل لها.
ليس الإيمان والصلاة إلا أسلوبًا من أساليب الغضب والرفض والهجاء. كان المؤمنون يقولون في مخاطبة الله: "اللهم إنَّا نعوذ بك منك ونلجأ منك إليك" – دعاء فيه أقسى مشاعر المرارة والمقاومة الضائعة، فيه كلُّ الهجاء والرفض والهرب وكلُّ معاني الحرب. الإيمان والصلاة دائمًا احتجاج مستتر على الآلهة التي تعرض ذاتها وعبقريتها عرضًا يصدم الإنسان في منطقه وأنانيته وضروراته، وينافي الأخلاق في جميع حدودها. حتى الإيمان بالزعماء والمذاهب والنُّظُم ليس إلا نوعًا من الاحتجاج والمعارضة والبكاء.
الحديث الشريف ليس إلا نقلاً للمجتمعات إلى المقابر، أو نقلاً للمقابر إلى المجتمعات، لكي تعيش فيها مواهبَها وتتعلم منها الخوفَ من التغيير.
ما حكم العقل والمنطق في حديث "الذين يفسرون القرآن بآرائهم إما أن يصيبوا أو يخطئوا؛ فإن أصابوا فقد أخطئوا، وإن أخطئوا فقد كفروا"؟
إن أيَّ دين وثنيٍّ لأقرب إلى التوافق مع الدين الإسلامي من الأحاديث بعضها مع بعض – بل من الأحاديث نفسها مع الإسلام.
إن السجود الفكري هو المشرِّع لكلِّ أنواع العبوديات الأخرى.
أيُّ إثم في أن يقول رجل صالح أنه سمع سحابتين تتحدثان بحماس وانفعال عن جمال الإسلام وأنه خير الأديان وأن أهله سيحكمون العالم؟!
أنت مؤمن بإعجازه، إذن هو مُعجِز. هو مُعجِز لأنك مؤمن بإعجازه، ولست مؤمنًا بإعجازه لأنه مُعجِز. ليس مُعجِزًا لأنه مُعجِز، بل لأنك مؤمن بذلك.
الحديث تشريع وإلزام – ومع هذا حرام كتابتُه! هل معقول الجمع بين كون الشيء واجبًا وبين كون كتابته حرامًا؟!

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال