الشمول والموازنة في التربية الإسلامية.. تقويم الأخلاق والطباع وتوجيه النفس لمرامي الفلاح

إن الأخذ بالتربية الدينية هو الأساس لتقويم الأخلاق والطباع وتوجيه النفس لمرامي الفلاح، لأن التدين فطري في النفوس،تجد النفس طمأنينتها وراحتها فيه.

ويسعد القلب بنهج التدين الفطري الذي يوقظ حوافز الخير فيه، وينهض بهمته نحو المعالي فيعيش قلباً صافياً قوياً له صلة بربه يخشع عند ذكره. ويحب ويبغض ويواد ويخاصم في رضا ربه، حتى يصبح قلباً ربانياً يراقب الله عز وجل في كل نبض وحركة.

وهذه التربية الدينية للقلب وإيقاظه إنما تتأتي مع عناية تربوية وحسن توجيه وتعهد منذ الصغر بممارسة الفضائل والالتزام بالأوامر والانتهاء عن النواهي، وتعويد النفس ما فيه كلفة ظاهرة حتى تتمرن وتتعود، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ».[1]

وهكذا تتم التربية منذ الصغر وتتكامل وتنمو مع نمو هذا الصغير، بالأمر تارة، وبالضرب التربوي غير المبرح تارة، وبالسلوك العملي في الحياة اليومية تارة أخرى. فالتربية إنما تبدأ منذ الصغر حتى تصوغ حياة الإنسان وفكره فيما بعد.

فإذا شبَّ الصغير على ما اعتاده في صغره فإنه سيكون مأمون الانزلاق في الشهوات يحكم عقله وقلبه، فيعصمه الله من سلوك طريق الغواية ويبغضه له ويحبب إليه طريق الهداية ويسهله له.

وكما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ++ على ما كان عوده أبوه

فالتربية الدينية في عصرنا هذا غدت ضرورة ملحة لإعادة الشاردين من الأحداث إلى بيوتهم، ومعالجة أمراض الشباب النفسية والاجتماعية والسلوكية وإعادة الهدوء إلى النفوس والبيوت.

إننا بحاجة إلى التربية الدينية في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا وأسواقنا... بحاجة لها في مناهجنا وسلوك أبنائنا.. بحاجة لها في تنظيم علائقنا الفردية والأسرية والاجتماعية.

وإذا كان العالم المعاصر اليوم يضج من مشاكل الشباب وتأزمها وتعقدها حتى أصبح الشباب عنصر هدم وفوضى وجريمة برغم كل القوانين وتنوع العقوبات وكثرة الدراسات النفسية والاجتماعية، فكل ذلك لم يفلح ولم يفد علاجاً لمرضى الشباب.

التربية الدينية الإسلامية هي شاطئ الأمان لهؤلاء جميعاً،التزاماً بهدي الإسلام وسيراً على نهجه، والتربية الدينية غدت اليوم ضرورة حتمية لا تقل أهمية عن الحياة وعمران الأرض وتحقيق العدل، بل فيها وحدها يكون العدل.

ولذلك يحرص الإسلام على توجيه الآباء والأمهات إلى حسن أدب الأبناء وتربيتهم عليه، فعَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): "مَا نَحِلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نُحْلًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ"[2]

والتربية الإسلامية مؤهلة لحمل الشباب والمجتمع إلى الطريق الآمن السعيد في هذه الأرض لأنها منهج الخبير، فلا غرو أن تحمل هذا التأهيل.

والناظر في المنهج التربوي الإسلامي تطالعه مبادئ عامة وقواعد أساسية عليها يقوم البناء التربوي ومن خلالها يعيش الشباب المتربي وسط تضارب النظريات والاجتهادات التربوية من هنا وهناك... وتضمن هذه القواعد والمبادئ سلامة السير إلى الغاية المنشودة من التربية الإسلامية.

والشمول والموازنة من أهم المبادئ التربوية التي ينبغي استيعابها والالتزام بمقتضاها. أما الشمول فإن المنهج التربوي الإسلامي يتميز بهذه الخاصية الفريدة، فهو شامل في تحديده للإطار التربوي النفسي والسلوكي فلا يترك جزئية إلا ويكون له إزاءها تصور وحكم، وهو بذلك يتعقب كل مدخل قد يكون مضراً وخاطئاً فيحذر المسلم منه، ويجرد منهجه منه أيضاً، وهذه الخاصة المتميزة، يأخذها المنهج التربوي الإسلامي من صفة المنهج الإسلامي عموماً عقيدة وشريعة، فهو منهج شامل لأنه منهج رباني من عند الله سبحانه وتعالى لا من صنع الإنسان، ويستحيل على الإنسان أن يصنع مثل هذا المنهج، لأن الإنسان أولاً محدود الكينونة من ناحية الزمان والمكان، إذ هو حادث في زمن يبدأ بعد عدم، وينتهي بعد حدوث، ومتحيز في مكان، سواء كان فرداً أو كان جيلاً أو كان جنساً، لا يوجد إلا في مكان، ولا ينطلق وراء المكان.

كما أنه لا يوجد إلا في زمان ولا ينطلق وراء الزمان، ولأنه محدود الكينونة من ناحية العلم والتجربة والإدراك.. يبدأ علمه بعد حدوثه، ويصل من العلم إلى ما يتناسب مع حدود كينونته في الزمان والمكان، وحدود وظيفته كذلك، ولأنه فوق أنه محدود الكينونة بهذه الاعتبارات كلها، محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته، فوق ما هو محكوم بقصوره وجهله.. الإنسان وهذه ظروفه، حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي في ذات نفسه، أو في إنشاء منهج للحياة الواقعية من ذات نفسه كذلك، يجيء تفكيره محكوماً بهذه السمة التي تحكم كينونته كلها... يجيء تفكيره جزئياً... يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، ويصلح لمكان ولا يصلح لآخر، ويصلح لحال ولا يصلح لآخر، ويصلح لمستوى ولا يصلح لآخر.

فوق أنه لا يتناول الأمر الواحد من جميع زواياه وأطرافه، وجميع ملابساته وأطواره،وجميع مقوماته وأسبابه.. لأن هذه كلها ممتدة في الزمان والمكان، وممتدة في الأسباب والعلل، وراء كينونة الإنسان ذاته، ومجال إدراكه... وذلك كله فوق ما يعتور هذا التفكير من عوامل الضعف والهوى، وهما سمتان إنسانيتان أصيلتان.

وكذلك لا يمكن أن تجيء فكرة بشرية، ولا أن يجيء منهج من صنع البشرية يتمثل فيه الشمول أبداً... إنما هو تفكير جزئي.. وتفكير وقتي.. ومن جزئيته يقع النقص ومن وقتيته يقع الاضطراب الذي يحتم التغيير، ويتمثل في الأفكار التي استقل البشر بصنعها، وفي المناهج التي استقل البشر بوضعها دوام "التناقض" أو دوام "الجدل" المتمثل في التاريخ الأوروبي.

فأما حين يتولى الله سبحانه ذلك كله.. فإن التصور الاعتقادي، وكذلك المنهج الحيوي المنبثق منه، يجيئان بريئين من كل ما يعتور الصنعة البشرية من القصور والنقص والضعف والتفاوت.

ولقد أثبتت المناهج التربوية فشلها في الوصول إلى التكامل أو الشمول سواء في تقعيد أصول نظرياتها الفكرية والتربوية والفلسفية، أم في تفريعاتها وتطبيقاتها، ولم يفلح حتى الساعة منهج تربوي في إدراك شيء من هذا الشمول أو هذا التكامل،الذي أصاب الإسلام سنامه ومنتهاه لا لشيء إلا لأنه منهج من عند الله خالق الإنسان وفاطره ويعلم ما يصلحه وما يضره ويفسده.

والمتتبع لسير المنهج التربوي الإسلامي يدرك على الفور أن ملامح ومنحنيات هذا المنهج إنما تسير متجهة إلى تعبيد الإنسان المسلم لربه وتحقيق عبودية الله في نفس وكيان هذا المسلم ليقوم بالدور المطلوب منه في هذه الأرض كعبد وكخليفة عن الله في أرضه يزرعها بالخير والصلاح ويجتث منها الشر والفساد.

وبهذه المسيرة يلتقي المنهج التربوي الإسلامي مع بقية التوجهات في أمور الدنيا والدين التي تصبُّ كلها في هذا المصب الإيماني الوحيد لتحقق بمجموعتها الغاية والهدف {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات.

ومع أن هذه الخاصية الشمولية للمنهج التربوي الإسلامي خاصية متفرعة ومتداخلة ومتشعبة لأنها تخاطب فطرة الإنسان وكينونته كمخلوق من مادة وروح، وتوجه نشاط الإنسان في شتى مناحي حياته، إلا أنها مع ذلك كله تتميز بالتناسق والتوازن فلا يطغى جانب على آخر، ولا يفتات اتجاه على غيره،ولا تعتسف الطريق ولا تحيد عنه، وهذا ما نقصده بالخاصية المقترنة بهذه الخاصية وهي خاصية التوازن.

فالكائن البشري روح وعقل وجسم، والمناهج الأرضية لا تستطيع الموازنة بين هذه المعالم الثلاثة لأن ذلك يقتضي معرفة متطلبات كل منها ومعرفة علاقة كل بالآخر، ولذلك نجد المناهج الأرضية تبرز في جانب دون آخر، وتنمي جانباً على حساب آخر، فقد تعالج الروح حتى تجعل من الإنسان كائناً أنانياً مغروراً ينظر إلى العالم من خلال عقله القاصر، وقد تعنى المناهج بجسم الإنسان فتجعل منه رياضياً مقاتلاً ومصارعاً فيستعمله المجتمع كأداة للتأديب أو للدفاع عن الناس والمجتمع وكل هذه التناولات المنهجية إنما تكون في بناء عنصر على حساب عنصر آخر، ولا يوجد في الأرض اليوم منهج من صنع بشر استطاع أن يبني منهجاً يتجاوب مع فطرة الإنسان بجوانبها كلها مجتمعة روحه وعقله وجسده.

أما الإسلام فيتفرد بشمولية منهجه التربوي لهذا الكائن وتوازنه، فيعالجه معالجة شاملة متوازنة لا تغفل عن شيء... روحه وعقله وجسده، وما يتطلبه كل عنصر من مستلزمات ومناخ يزاول فيه نشاطه منسجما مع مناخات العناصر الأخرى.

والذي يخول للإسلام النجاح في هذا المضمار أنه دين الله عز وجل وهو الصانع والمبدع والخالق لهذا الكائن، وبالتالي فهو أعلم وأخبر بصنعته وهو الحقيق أن يوجد المنهج المتلائم مع هذه الفطرة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) سورة الملك.

عَنْ سَلْمَانَ قَالَ قِيلَ لَهُ قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ (ص) كُلَّ شَىْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ.قَالَ فَقَالَ أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِىَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ.[3]

فما ترك الإسلام جانبا من جوانب الحياة إلا وقد تناولتها الشريعة وأضحت لنا فيها الخير من الشر، والطاهر من الخبيث، والصحيح من الفاسد، وبهذا الشمول الذي تتسم به الشريعة الإسلامية، فإنها في غاية الكمال ،قال تعالى: {..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا..} (3) سورة المائدة.

ونتيجة لهذه الشمولية في التربية الإسلامية يتوصل الإسلام إلى استغلال كل طاقات هذا الكائن بل يصل إلى الحد الأقصى لهذه الطاقات، ولذلك فإن استثمار الإسلام في عهده الأول للعدد القليل من المسلمين وقدرته على الوصول والاستفادة من الحد الأقصى لطاقتهم صنع الأعاجيب في عالم الأرض وأمام جحافل الغثاء من البشر الذين لم تستطع مناهجهم أن تستثمر طاقاتهم الفطرية المكنونة، فالكائن البشري هو الكائن البشري ولكن النتيجة متباينة ومختلفة بين منهج الإسلام ومنهج الناس.

ثم إن معرفة متطلبات كل عنصر والتنسيق بين هذه المتطلبات وتوحيد مواردها ومصابها تعكس على نفس هذا الكائن طمأنينة وهدوءاً وتوازناً في كل شئ؟ في معنويات الإنسان ومادياته،في آماله وأحلامه، في واقعه ومستقبله، في يومه وغده، في معاملاته اقتصادية كانت أم اجتماعية أو سياسية، في حدوده كفرد وحدوده كفرد وسط الجماعة.

ودون هذا التوازن يهدد كيان الإنسان وحرمته، ويفقد توازنه وينعكس ذلك على نفسه باضطرابها، وعلى مجتمعه بالفوضى وتداخل الحقوق وضياع العدل والإنصاف، والمتتبع لحاضر العالم المعاصر وما يعانيه من اضطراب وفوضى في كل مجال سيجد أن اختلال التوازن بين متطلبات روح وعقل وجسم هذا الكائن هو مكمن الداء، ولن يجد له دواء إلاّ في ظل منهج الإسلام؛ لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يخاطب الفطرة لأنه منهج خالق الفطر سبحانه وتعالى.

[1]- سنن أبي داود - المكنز - (495 ) صحيح.
[2]- شعب الإيمان - (11 / 130)(8285) حسن لغيره.
[3]- صحيح مسلم- المكنز - (629).

- الخراءة: قال الخطابي: «الخراءة» مكسورة الخاء ممدودة الألف: التخلي والقعود للحاجة،قال:وأكثر الرواة يفتحون الخاء، ولا يمدون الألف.

- قلت: وقد قال الجوهري في كتاب «الصحاح»: إنها «الخراءة» بالفتح والمد، وهذا لفظه، قال: وقد خرئ خراءة، مثل كره كراهة ويحتمل أن يكون بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.

- نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار: فيه: بيان أن الاستنجاء أحد الطهرين، فإن لم يستعمل الماء فلا بد له من الحجر، وبيان أن الاقتصار علي دون الثلاثة لا يجزئ وإن أنقى، لأنه علم أن الإنقاء قد يحصل دون الثلاثة ومع هذا اشترط الثلاثة، وكان اشتراطها تعبدا وشرطا في صحة الطهارة.

- برجيع: الرجيع: الروث والعذرة، وإنما سمي رجيعا، لأنه يرجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعاما وعلفا وغير ذلك.

- نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه: النهي عن الاستنجاء باليمين في قول أكثر العلماء: نهي تأديب وتنزيه، لأنها مرصدة للأكل والشرب وأكثر الآداب، فنزهت عن مباشرة النجاسة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال