التربية الإسلامية والبدء بالأهم.. إقرار العقيدة في النفوس وبناء الروافد التربوية والاجتماعية والسياسية

حينما تنحصر قدرات الإنسان المادية أمام خيارات معينة،فإنه بلا شك يرتب أولويات الأعمال حسب أهميتها، فيبدأ بالأهم فالمهم، وقد يكون في قدرته تناول بعض الأعمال السهلة، لكنه يدرك أنها لا تجدي نفعاً دون استيعاب وتناول الأمور الرئيسية المهمة، فيدخر جهده لها.

وهكذا حال الدول عند تأسيسها أو بعد خروجها من الحروب مهزومة تبتغي رأب صدوعات بنائها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وغيرها،تعمد إلى ترتيب تلك الأولويات.

وإذا كانت هذه القضية واضحة في إطار بناء الدول،فينبغي أن تكون أكثر وضوحاً في إطار البناء التربوي للأمم، ينبغي أن تنمو التربية في ظل قاعدة الأهم قبل الأسهل، فمن السهل أن تجذب الشباب إلى لهو لا يتحملون فيه مسؤولية، لكن من الصعب أن تجذبهم إلى ندوة إلى محاضرة يكون عليهم جزء من مسؤوليتها، مع أنها أهم  من اللهو السابق، وأصعب من ذلك أن تبني فكر الشباب وعقيدته ليتعامل بها في المجتمع مع أن ذلك أهم من سابقه.

لقد اهتم الاستعمار منذ زمن بتشويش نظرتنا لهذه القضية الحساسة بل واستهوانا بتكريس جهدنا ومسيرتنا في طريق البناء السهل، وأوهمنا أننا بذلك نبني الحضارة المنشودة بينما نحن – في حقيقة الأمر – نراوح في مكاننا لا نعدوه إلا إلى أسوأ حتى استمرأنا وألفنا هذا الخط في البناء التربوي وغيره وأصبح من الصعب علينا العيش في الدائرة الأهم،ورضينا أن نكون سوقاً استهلاكية لإنتاجه... بل وفضلاته ورضينا من الناقة بالذنب.

وحينما قرر اليهود في "بروتوكولات" حكماء صهيون "إلهاء الشعوب باللعب والرياضيات والفنون، كانوا يدركون خطورة الانتباه لهذه القضية، وأن إشغال الشعوب في السهل من الأمور السهلة مرغوبة لا منبوذة، ولكن الذي يشينها أنها أخذت مكاناً ليس مخصصاً لها وفي وقت ليس وقتها وفي إطار مهلهل لا يصلح لها.

ولا نعرف في أرض الناس بالأمس واليوم منهجاً يقرر المبدأ.. مبدأ الأهم قبل الأسهل مثل الإسلام، لقد وضح وقرر النبي (ص) هذا الأمر كأوضح ما يكون التقرير، وطبقه عملياً بصورة لم تعهد البشرية لها نظيراً.

لقد واجه النبي (ص) ركاماً جاهلياً في واقع الناس وعلاقاتهم وظلم بعضهم لبعض، وركاماً فكرياً وعقائدياً مشوشاً منحرفاً، جاء ليواجه هذه الأرصدة الضخمة من الوقائع الاجتماعية والفكرية والعقائدية... جاء ليجمع الناس حول مبدأ واحد وقناعة واحدة في عقيدة واحدة، كانت أمامه سبل كثيرة ميسور سلوكها لتجميع الناس،وأمامه طريق واحد صعب المرام ولكنه الأهم،فكيف ..ومن أين يبدأ ؟...

كان بإمكان النبي (ص) أن يجمع العرب حول شارة العروبة ويعلنها قومية عربية أمام القوى المحيطة بالجزيرة من الأعاجم الفرس والروم، وكانت نفسية العرب وعصبيتهم مهيأة لذلك.

كان بإمكانه أن يجمع العرب تحت شارة محاربة الظلم الاجتماعي والطبقي، وسيجد العون من سواد المجتمعات يؤمئذ ويعزز جبهته، كان بإمكانه أن يتخذ هذه الأساليب وغيرها ليجمع كلمة العرب على سواء في أقل مدة ممكنة وبأقل جهد ممكن.

لكن الأمر الذي ينبغي ألا يخفى أن مهمة النبي ص لم تكن التجميع بل كانت التربية والبناء على أسس ثابتة، فكان وحي الله عز وجل يوجهه وجهة البداية الصعبة لأنها الأهم... بداية استهلكت من وقته ثلاثة عشر عاماً متواصلة من الهدم والضنك والتعب، بداية كلفته معاداة الأهل والقبيلة وكلفته محاربة العرب والعجم داخل الجزيرة وخارجها، كلفته الدم وتساقط الشهداء،كانت بداية العقيدة... إقرار العقيدة في النفوس... العقيدة التي هي الضريبة الضخمة التي منها وعليها تؤسس جميع الروافد والمصاب التربوية والاجتماعية والسياسية، لقد كانت بداية ضخمة صعبة المرام ولكنها الأهم.. فكانت النتائج ضخمة أيضاً في واقع الناس والمجتمع البشري كله فعمرت تلك الثلاثة عشر عاماً ثلاثة عشر قرناً تحقق العدل وتنشر السكينة وتسعد البشرية بحضارة لم ولن تسعد في غيرها.

نريد من ذلك أن نقرر قضية وحقيقة بالغة الأهمية... حقيقة يفقدها أساس بنائنا التربوي... إننا نريد من مسارنا التربوي أن يأخذ بالعزيمة ويبدأ تلك البداية... بداية العقيدة، عندها فقط سنكون في دائرة السباق الحضاري بل على خط السباق الأول، وسنحرز الفوز الحقيقي لا الفوز المنفوخ الخاوي،ويومها سنكره العيش على الهوامش والفضلات والتبعية وسنسحس بلذة الصدارة،والناس على أثرنا ونور هدايتنا سائرون.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال