الاتجاهات الحديثة في علم الجغرافيا.. الاتجاه الموسوعي. الاتجاه التعليمي. الاتجاه الاستعماري. الاتجاه نحو التعميم. الاتجاه السياسي. الاتجاه نحو التخصص. الاتجاه التطبيقي

أبرز الاتجاهات الحديثة التى شهدها علم الجغرافيا خلال المائة السنة الأخيرة:

1ـ المرحلة القديمة (الاتجاه الموسوعي):
يتمثل فى  جمع المعلومات والحقائق والملاحظات عن الظاهرات الطبيعية والبشرية في البيئة والتي سجلها الرحالة والمكتشفون.

وكانت الصيغة الوصفية تغلب على الجغرافيا القديمة تبعاً لعاملين: أولهما الاتجاه الموسوعي الذي كان على الجغرافيا اتباعه والعامل الثاني إن العالم كان فى طور الاكتشاف لارجائه الواسعة، ومن ثم كان اهتمام الجغرافي أن يلم بما يستجد من اكتشافات.

وكان الاتجاه المنهجى لجغرافية هذه المرحلة هو إبراز العلاقة بين الإنسان والبيئة، وكانت العلاقة بينهما فى اتجاه واحد، أى أن البيئة هي التي تحدد سلوك الإنسان الاقتصادي والاجتماعي، ولم يؤمن جغرافيو هذه المرحلة بتبادل التأثير بينهما إلا فى الفترة الأخيرة من هذه المرحلة (القرن التاسع عشر)، وإن كان حجم تأثير الإنسان في البيئة ضئيلاً فى البداية ، وتنامت خبرة الجغرافي فى أواخر هذا القرن.

وجاء المنتج الفكري للجغرافي فى هذه المرحلة القديمة وصفياً للظاهرات الجغرافية، كما غلب عليها السرد والإطناب فى شرح وتفسير الظاهرة الذي خلا من المنطق أحياناً وداخلته الخزعبلات والأساطير أحياناً أخرى.

وبتقييم هذه الشروح نجها غير حاسمة وقابلة للجدل وخلت من الصبغة العلمية في مجمل أمورها.

2ـ الاتجاه التعليمي:
دخلت الجغرافيا ميدان التعليم كهمزة وصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وقد أدخلت الجغرافيا كمادة تعليمية فى المدارس الابتدائية ومعاهد إعداد المعلمين بإنجلترا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن مناهج التعليم الثانوي لم تتضمنها إلا فى مطلع القرن العشرين.

وكانت فرنسا وألمانيا اسبق من إنجلترا فى إدخال الجغرافيا كمادة تخصص، وقد كرس كثير من كبار الجغرافيين جهودهم لتشجيع تعليم الجغرافيا فى المدارس، وذلك عن طريق تأليف الكتب المدرسية، فضلاً عن المحاضرات العامة التى كانوا يحرصون على إلقائها لنشر الوعي الجغرافى بين المواطنين.

ويمكن أن نسجل ملاحظتين على تعليم الجغرافيا بالمدارس فى أوروبا فى أوائل القرن العشرين، وهى الفترة التى أخذت فيها الجغرافيا اتجاهاً تعليمياً، أولهما التقدم الملموس فى الخروج بتعليم الجغرافيا من الفصل أو المدرسة، وذلك عن طريق تنظيم زيارات الطلاب إلى المناطق التى يدرسونها، وقد تطورت هذه الزيارات إلى دراسات ميدانية أسهمت فى تقدم علم الجغرافيا بصفة عامة، أنما الملاحظة الثانية فهي الاهتمام بتدريس جغرافية البيئة المحلية وجغرافية القطر الذى ينتمي إليه الطلاب.

3ـ الاتجاه الاستعماري:
بدأ هذا الاتجاه فى الدراسة الجغرافية منذ سبعينات القرن التاسع عشر، واستمر طوال المائة سنة الأخيرة، وقد خرج الجغرافيين الأوروبيون - ولاسيما جغرافيو الدول الاستعمارية - من نطاق القارة الأوروبية إلى نطاق القارة الأفريقية نتيجة زيادة المد الاستعماري الأوروبي لأفريقيا وخدمة للاستعمار وحكم المستعمرات، ثم تلا ذلك نشأة كليات جامعية فى أفريقيا تابعة للجامعات الأوروبية، تحول بعضها بالتدريج إلى جامعات أفريقية مستقلة أخذت على عاتقها القيام بدراسات جغرافية محلية.

وقد اختلف الوضع فى أمريكا إذ تركزت دراسات الجغرافيين الأمريكيين على بلادهم، وذلك لان أمريكا كانت فى شغل شاغل بتعمير الأرض الجديدة فيها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنها لم تدخل ميدان الاستعمار فى أفريقيا بخلاف الحال بالنسبة للدول الأوروبية الاستعمارية.

4ـ الاتجاه نحو التعميم:
ظهر هذا الاتجاه خلال السنوات الأولى من القرن العشرين، وإن كان الجغرافيون قد اهتموا قبل ذلك بالتوزيعات العالمية لبعض الظاهرات الجغرافية مثل أنماط المناخ والنبات.

ويعتبر هربرتسن Herbertson صاحب نظرية الأقاليم الطبيعية، وماكندر Machinder صاحب نظرية قلب اليابس فى الجغرافيا السياسية من رواد هذا الاتجاه.

5ـ الاتجاه السياسي:
ظهر هذا الاتجاه فى أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) وهى الحرب التى تمخضت عن إعادة تخطيط الخريطة السياسية لأوروبا، وكان من الطبيعي أن يدلى الجغرافيين برأيهم فى الحدود السياسية الجديدة، من حيث قيمتها الاستراتيجية وتمشيها مع الظاهرات الجغرافية، أو فى الوحدات السياسية الناشئة من حيث مقوماتها البشرية وإمكاناتها الاقتصادية، وبالتالي زاد الاهتمام بالجغرافيا السياسية فى تلك الفترة.

6ـ مرحلة الاتجاه نحو التخصص:
بدأ هذا الاتجاه يتبلور بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1929 ـ 1945)، ومازال سائداً حتى الآن، فبعد تكامل اكتشاف قارات العالم غدت المعرفة الجغرافية من الضخامة بحيث أصبح من العسير على الجغرافيين استيعاب هذا الكم الهائل من المعرفة الجغرافية المتراكمة، وخاصة بعد التغير الذي طرأ على أساليب البحث والمعرفة في العلوم البحتة التي أتاحت المعرفة المتعمقة للظاهرات الجغرافية بدلاً من المعرفة السطحية التي يتم جمعها عن طريق الرحلات.

وقد ظهرت علوم بحتة جديدة لها نظرياتها كالجيولوجيا وعلم المعادن وعلم التربة وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم الهيدرولوجيا والتي عرفت بالعلوم الطبيعية البحتة، وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم السياسة والتاريخ والتي تعرف بالعلوم الإنسانية البحتة، هذا فضلاً عن التخصصات التطبيقية والفنية والعلوم الهندسية وغيرها.

وقد أتاح هذا الاتجاه نحو التخصص الأكاديمي واستخدام الأسلوب التجريبي بها إلى تعاظم المعرفة العلمية عن كل ظاهرة موضوع التخصص، وبالتالي تأثرت المعرفة الجغرافية التي تدرس نفس الظاهرة في البيئة.

والجغرافيا بدورها قد انقسمت إلى فروع طبيعية مثل جغرافية المناخ وجغرافية أشكال سطح الأرض والجغرافيا الحيوية والجغرافيا الاقتصادية وفروعها (جغرافية الزراعة والصناعة والنقل)، والجغرافيا الاجتماعية وفروعها (السكان والمدن والريف والجغرافيا السياسية).

وجاء التخصص في الجغرافيا ليحاكى ويساير التخصص الذي طرأ على العلوم البحتة وليتناسب مع تعاظم المعرفة العلمية قبل وبعد الاتجاه نحو التخصص الأكاديمي.

وكانت التوزيعات الجغرافية للظاهرات المبحوثة في كل فرع هي بؤرة اهتمام الفروع الجديدة فى الجغرافيا.

كما أبدت الفروع الجديدة اهتماماً بتباين العلاقة بين الإنسان والبيئة، وإن تغيرت النظرة لمن الغلبة فى التأثير المتبادل بين الإنسان والبيئة إذ أصبحت لصالح الإنسان فى نهاية الأمر.

وتمخضت عملية التخصص والتفرع فى الدراسة الجغرافية فى تلك المرحلة عن إتاحة الفرصة إلى التعمق فى تفصيلات الظواهر بالأمكنة، كما كان لاتباع مبدأ السببية Causality فى تفسير تلك الظاهرات أثره فى دقة التحليل والتفسير، فى نفس الوقت أثرى التجريب المعملي المعرفة السببية للظاهرات الجغرافية.

وكان للعوامل الثلاث السابقة ـ التخصص والتفرع المتزايد ومبدأ السببية والتجريب ـ أثره فى تعاظم المعرفة الجغرافية، وجاءت النتائج أكثر دقة وحاسمة بحيث لا تسمح بالتأويل أو الجدل.

7ـ الاتجاه التطبيقي:
يعد هذا الاتجاه أحدث الاتجاهات التى استقر عليها علم الجغرافيا حتى الآن، وقد ظهر خلال بحث الجغرافيين عن هدف نفعي يسعون إلى تحقيقه عن طريق الجغرافيا.

كما ارتبط أساساً بمبدأ التخطيط الذى ظهر أول ما ظهر فى الاتحاد السوفيتي سابقاً ثم لم يلبث أن انتشر فى كثير من بلاد العالم المتقدم، وقد استطاع الجغرافيون أن يثبتوا جدارتهم بما قدموه من دراسات المدن بعد أن تقم فرع جغرافية المدن، ومن دراسات للمناطق الريفية بعد أن تقدم فرع جغرافية الريف، وكان ما قدموه فى هذين المجالين خير معين لتخطيط المدن والريف Town and Country Planning.

هذا فضلاً عن ظهور فكرة الإقليمية Regionalism والمسح الجغرافى للأقاليم مما ترتب عليه تمكن الجغرافيين من الإسهام الجدي فى التخطيط الإقليمي.

ومن الدراسات الجغرافية التى انتشرت فى مختلف المدارس الجغرافية وكان لها الفضل الأكبر فى لفت الأنظار إلى أهمية الجغرافيا بالنسبة للتخطيط بصفة عامة ما يعرف باستخدام الأرض Land Use.

وكان من الرواد فى هذا المجال الجغرافى البريطاني ديدلى ستامب Dudly Stamp الذي عهد إليه بالإشراف على مسح بريطانيا من حيث استغلال الأراضي فى الثلاثينيات من القرن العشرين.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال