إن التزام وسائل الإعلام بتوجيهات المنهج القرآني في التعامل مع ولي الأمر فيه ترسيخ لاعتدالها وتقويم لأخطائها مما يصل بوسائل الإعلام الشريفة إلى هدفها المنشود في الإصلاح وتحقيق المصلحة العامة.
** عدم نشر ما يتعلق بالصالح العام والأمن والقضايا المصيرية إلا بعد رفع الأمر إليه وأخذ توجيهه في ذلك. لأن عدم فعل ذلك فيه تجاوز لحقوقه واستهانة بسلطانه وإرجاع الأمور إلى غير أهلها ويترتب على ذلك انفلات لزمام الأمور وفوات للمصلحة العامة وقد عاب الله عز وجل هذا الفعل على أقوام تجاوزوا صلاحيات ولي الأمر.
فقال تعالى: "وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً*" ([1]).
وهذه الآية تدعو المسلمين إلى الرجوع إلى الثقات وإلى أولي الأمر للتثبت من الأنباء والتيقن من الأمور قبل المشاركة في إذاعتها وترويجها وأن عدم احترام حق ولي الأمر في إدارة المصالح العامة من اتباع الشيطان وفيه تسهيل للأعداء في إدارة الحرب النفسية وتوجيهها إلى المجتمع لتحطيمه نفسياً.
وفي معنى (أولي الأمر منهم) ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الأمراء قاله ابن زيد والسدي. وثانيها: أمراء السرايا. وثالثها: اهل العلم والفقه([2])، والقول الأول هو المراد هنا ويدخل فيه أمراء السرايا أو العلماء إذا أحال الإمام الأمر إليهم، ويجوز في معنى الآية أن يكون الكلام في جمهور المسلمين من غير تعيين والواجب على الجميع تفويض مثل ذلك إلى أولي الأمر من بعد الرسول صلى الله عيه وسلم لأن جميع المصالح العامة توكل إليهم وهذا من حقهم والناس فيه تبع لهم ولذلك وجبت طاعتهم([3]). وفي الآية امتنان من الله بإرشاد الناس إلى أنواع المصالح والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره([4]). وذكر وهبة الزحيلي من أحكام هذه الآيةً وجوب التثبت من الأخبار قبل روايتها وضرورة الرقابة العامة على الأخبار المعلنة حفاظاً على أسرار الأمة ووحدتها وأن القادة هم أولى الناس بالتحدث عن القضايا والشؤون العامة([5]).
وبالرجوع إلى أقوال العلماء في تفسير هذه الآية يتضح أنه من الواجب على الإعلاميين عدم نشر الأخبار التي تتعلق بالأمن العام والقضايا الحساسة وخاصة التي لها علاقة بالسيادة إلا بعد الرجوع إلى ولي الأمر ليحدد لهم ما يجوز نشره وما لا يجوز ، ويجب العلم بأن هذا التوجيه القرآني لا يتعارض مع الحرية الإعلامية بل يتفق مع مسيرتها الإيجابية لأداء رسالة مفيدة للأمة والإيمان بأنّ هذا حق للإمام أكدت عليه الآية تأكيداً واضحاً.
** جميع أفراد المجتمع في ذمة الإمام وتحت بيعته فلا تجوز خيانته وتسريب ما يضعف جانب سياسته إلى أعدائه والمناوئين له
يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ*" ([6]).
ويتضح مقصود الآية ووجه الشاهد فيها من خلال أقوال المفسرين فيها.
قال السدي: "كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فيفشونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك"([7]). (وأنتم تعلمون) أي تعلمون القبيح من الحسن([8]). وقيل تعلمون أنكم قد خنتم([9]). قال الزمخشري "الخَوْن النقص"([10]). فيكون المعنى أن في الخيانة نقص من حقوق الوالي وعدم الوفاء بها كاملة حيث إِن حق الطاعة وإنتفاء الخيانة واجبة للرسول صلى الله عليه وسلم وهي لولاة الأمر من بعده كما كانت له، وقد وردت عدة أقوال للمفسرين في أسباب النزول غير ما ذُكِر آنفاً ومنها أنها نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سر المسلمين ، وقيل بل نزلت في مقتل عثمان رضي الله عنه([11]). قال الشوكاني "ولعل المراد أن من جملة ما يدخل تحت عمومها قتل عثمان رضي الله عنه([12]).
ومن خلال ما تقدم من أقوال المفسرين في هذه الآية يُستنبط من الآية التحذير من خيانة الإمام ومخالفته وعدم نشر ما أراد إخفائه لمصلحة الأمة وأنه يجب على الإعلامي أن يلزم نفسه بما ألزمه الله به من لزوم طاعة الإمام وعدم خيانته بأي شكل من خلال وسائل الإعلام باسم الحرية الإعلامية وإلا وقع في المحظور.
** احترام ولي الأمر وعدم التعرض له بالأذى واللمز كما قد ورد سابقاً بأن كثيراً من الحقوق الواجبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كولي للأمر قد انتقلت إلى ولاة الأمر من بعده، وقد وبخ الله المنافقين والكفار لتعرضهم للرسول صلى الله عليه وسلم بالأذى واللمز وكان يكفي لمن كان مخلصاً وصادقاً إن رأى ما يستوجب النصيحة أن يتوجه لولي الأمر بالنصيحة وفق أصولها وضوابطها وشروطها.
قال تعالى: "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*" ([13]).
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في جماعة المنافقين قالوا ما لا ينبغي في حقه صلى الله عليه وسلم([14]).
وقد فضح الله المنافقين وتوعدهم بعذاب أليم لأنهم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن نقر بأن من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كمن آذى احداً من الناس إلا أن في الآية تحذيرٌ من أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته ولي الأمر لأن ما اتهموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من أمور السياسة ، أما التحذير من إيذاء رسول الله صلى لله عليه وسلم بصفته رسول الله فقد ورد في موضع آخر وذلك في سورة الأحزاب.
قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً*" ([15]).
وفي الآية توجيهٌ بوجوب احترام ولي الأمر وعدم الطعن فيه وذمه وهو توجيه عام لكل الرعية ونخص من بين الرعية وسائل الإعلام والإعلاميين لإمساكهم بزمام الكلمة وقدرتهم على نشر مرادهم على أوسع نطاق . وحتى لا يكونوا قدوة للناس في النيل من ولي الأمر ولا تفتح على أيديهم أبواب الانفلات والفتن وليس من وراء ذلك فائدة ترجي، وفي الآية تنبيه إلى تحريم مثل هذا التجاوز.
** مخاطبته بألين الألفاظ وأحسنها وعدم الإغلاظ له في القول . لأن المقصد هو الفائدة، وليست هناك أي فائدة ترجى من وراء الإغلاظ له في القول له لأن ذلك لا ينفع مع عامة الناس فكيف بولي الأمر الذي بيده صلاحيات يستطيع بها أن يلحق الضرر بمن أغلظ له القول وقد يحدث هذا التجاوز أثراً عكسياً وسلبياً على وسائل الإعلام وعلى المجتمع وعلى الحريات بصفة عامة.
يقول تعالى في إطار توجيهه لموسى وهارون عليهما السلام في التعامل مع فرعون "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * " ([16]).
وقد أمرهما الله أن يسلكا مع فرعون طريق الدعوة في لين من القول([17]). كما أن اللّيِن من القول لا يثير العزة بالإثم ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة ، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان([18]).
والحث على اللين هنا خاص بالملوك والرؤساء لأنه في آيات أخرى كان التوجيه للدعاة بأن يسلكوا طريق الحكمة والموعظة الحسنة وليست تعني بالضرورة اللين في القول وخفض الجناح فهي تحتمل أن يسلك الداعية أي مسلك مشروع تقتضيه الحكمة وقد تقتضي الحكمة تقريع المدعو والتشديد عليه في القول لعل ذلك أن يؤثر فيه. أما هنا فقد ذكرت الآية أن فرعون طغى ثم يأمر الله نبيه أن يقول لهذا الذي طغى قولاً ليناً لا عنف فيه ولا غلظة([19])، من باب الحكمة ومن باب كونه ملكاً له سطوته وقدرته على البطش. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على إنزال الناس منازلهم وتقدير كل إنسان بحسب مكانته ، قالت عائشة رضي الله عنها (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم)([20]). وأعلى الناس مكانة وأرفعهم منزلة في المجتمع هو الإمام.
وقد قال صلى الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد وكان أميراً له حين اختصم معه رجل من المسلمين عند الرسول صلى الله عليه وسلم في الغنائم فأغلظ الرجل القول لخالد فاستغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد وقال: (هل أنتم تاركون لي أمرائي) الحديث([21])، وفي هذا دليل على وجوب احترام الأمراء وتقديرهم وإلا أصبح الناس في فوضى لا سراة لهم .
وقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ*" ([22]).
قال الزمخشري: "المنهى عنه هو ما كان غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر به الكبراء ولا يُتَبَيَّنُ منه التعزيز والتوقير"([23]). يقول سيد قطب رحمه الله "وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم فلا يزعجونه حتى يخرج إليهم ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم"([24]). وكما ذُكِر سابقاً فإن لولي الأمر حقوقه الخاصة والواجبة له استمراراً لتوجيهات القرآن نحو احترام الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم شأنه كونه ولي الأمر، ثم هناك آيات أخرى توجب تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم لكونه رسول الله، وبهذا يبين لنا أهمية احترام ولي الأمر وعدم الإغلاظ له في القول وعدم رفع الصوت عليه من العامة، وخاصة وسائل الإعلام فإن ما يحصل من خلالها يشتهر وينتشر ويكثر ضرره ، كما لا يجوز توجيه اللوم له مباشرة والرد عليه بعنف ونصيحته بالغلظة لأن ذلك يتنافى مع توجيهات القرآن، ويجب على الإعلامي اختيار أفضل الطرق والوسائل وألطفها لمخاطبة ولي الأمر حتى لا تقع فتنة ويتجرأ الناس على الإمام وتقل هيبته وقد يبطش بهم وبالإعلاميين، وقد أوصى الله عز وجل نبيه موسى عليه السلام بأن يُلين القول مع فرعون رغم طغيانه فقال تعالى: "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى*" ([25]).
وقد ذكر الإمام بدر الدين بن جماعة أن للسلطان على رعيته عشرة حقوق:
* بذل الطاعة له ظاهراً وباطناً.
* بذل النصيحة له سراً وعلانية.
* القيام بنصرته ظاهراً وباطناً.
* أن يعرف له عظيم حقه وما يجب من تعظيم قدره، واعتبر ما يفعله بعض المنتسبين للزهد من قلة الأدب معهم مخالفاً للسنة.
* إيقاظه عند غفلته وإرشاده عند هفوته شفقة عليه وحفظاً لدينه وعرضه وصيانة لما جعل الله إليه من أمور المسلمين.
* تحذيره من عدو يقصده بسوء، وحاسد يرومه بأذى، ومن كل شيء يخاف عليه منه على اختلاف أنواع ذلك وأجناسها فإن ذلك من آكد حقوقه وأوجبها.
* إعلامه بسيرة عماله الذين هو مطالب بهم مشغول الذمة بسببهم لينظر لنفسه في خلاص ذمته، وللأمة في مصالح ملكه ورعيته.
* إعانته على ما تحمله من أعباء الأمة ومساعدته على ذلك بقدر الإمكان.
* رد القلوب النافرة عنه إليه ، وجمع محبة الناس عليه لما في ذلك من مصالح الأمة وانتظام أمور الملة.
* الذب عنه بالقول والفعل ، وبالمال والنفس والأهل ، في الظاهر والباطن ، والسر والعلانية([26]).
([1]) سورة النساء، الآية 83.
([2]) علي بن محمد بن حبيب الماوردي ، النكت والعيون، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 1420هـ، ج1 ص511.
([3]) محمد رشيد رضا ، تفسير القرآن الكريم، ج5 ص241.
([4]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج5 ص142.
([5]) الزحيلي، التفسير المنير، ج5 ص177.
([6]) سورة الأنفال، الآية 27.
([7]) النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ج9 ص144.
([8]) المرجع السابق، ج9، ص144.
([9]) هود بن محكم الهواري ، تفسير كتاب الله العزيز، دار الغرب الإسلامي ط2، 1990م ، ج2 ص83.
([10]) الزمخشري، الكشاف، ج2 ص202.
([11]) الطبري، جامع البيان، ج6 ص220.
([12]) الشوكاني، فتح القدير، ج2 ص432.
([13]) سورة التوبة، الآية 61.
([14]) الألوسي، روح المعاني، ج10 ص441.
([15]) سورة الأحزاب، الآية 57.
([16]) سورة طه، الآيتان 43-44.
([17]) ابن عطية، المحرر الوجيز، ج10 ص33.
([18]) سيد قطب ، في ظلال القرآن، ج16 ص76.
([19]) عبد الله شحاته ، تفسير القرآن، ج ص3162.
([20]) أبو الطيب محمد شمس الحق آبادي ، عون المعبود شرح سنن أبو داود، المكتبة السلفية، المدينة النبوية، 1969م، ج13 ص191.
([21]) صحيح مسلم، حديث رقم 1753 ص695.
([22]) سورة الحجرات، الآية 2.
([23]) الزمخشري، الكشاف، ج4 ص354.
([24]) سيد قطب، في ظلال القرآن، ج26 ص132.
([25]) سورة طه، الآيات 43- 44.
([26]) بدر الدين ابن جماعة، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، ط2، 1991م ص61– 64.
التسميات
تواصل