التحقير والإهانة والانحرافات النفسية للطفل:
أما التحقير والإهانة فهو من أقبح العوامل في انحرافات الولد النفسية، بل هو من أكبر العوامل في ترسيخ ظاهرة الشعور بالنقص لدى الأطفال.. فكثيراً ما نسمع أن الأم أو الأب (شهّر بالولد حين ينحرف أول مرة عن سنن الأخلاق الكريمة، فإذا كذب مرة ناديناه دائماً بالكذاب، وإذا لطم أخاه الصغير مرة واحدة ناديناه بالشرير، وإذا احتال على أخته الصغيرة فأخذ منها تفاحة كانت بيدها ناديناه بالمحتال، وإذا أخذ من جيب أبيه قلماً ناديناه بالسارق،وإذا طلبنا منه كأس ماء للشرب فأبى ناديناه بالكسول، وهكذا نشهّر به أمام إخوته وأهله من الزلّة الأولى...).
نظرة حقد وكراهية:
ومن مظاهر التحقير والإهانة في بيئاتنا مناداة الولد بكلمات نابية، وعبارات قبيحة أمام الإخوة والأقارب، وفي بعض الأحيان أمام أصدقاء الولد، أو أمام غرباء ما سبق أن رآهم واجتمع بهم، وهذا – لا شك – مما يجعل الولد ينظر إلى نفسه أنه حقير مهين، ومن سقط المتاع لا قيمة له ولا اعتبار، وهذا – أيضاً – مما يولّد في نفسه العُقْد النفسية التي تدفعه إلى أن ينظر إلى الآخرين نظرة حقد وكراهية.. وأن ينطوي على نفسه فارّاً من أبناء الحياة، منهزماً من تكاليفها ومسؤولياتها!!..
ومن هنا نعلم أية جناية نجنيها على أبنائنا وبناتنا حين نزجّ بهم إلى الحياة في جو هذه التربية الفاسدة المليئة بالأخطاء والمعاملة القاسية.
فيكف نرجو من الأولاد طاعة وبراً، وتوقيراً واحتراماً، واتزاناً واستقامة.. ونحن قد غرسنا في نفوسهم وهم صغار بذور هذا الانحراف أو العقوق أو التمرد..؟!
عمر بن الخطاب والأب الذي أساء إلى ابنه:
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وأنّبه على عقوقه لأبيه، ونسيانه لحقوقه عليه، فقال الولد:يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال عمر: بلى! قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟
قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسّن اسمه، ويعلمه الكتاب (القرآن).
قال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي..، وقد سماني جُعَلاً (أي خنفساء)، ولم يعلّمني من الكتاب حرفاً واحداً.
فالتفت عمر إلى الرجل، وقال له: جئت إليّ تشكو عقوق ابنك وقد عَقَقْتَه قبل أن يعُفّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.[1]
أتخالفني وأنت ابن أمَة؟
ومن طرائف ما ذُكر أن أباً عيّر ولده بأمه، وقال له: أتخالفني وأنت ابن أمَة؟ فقال الولد لأبيه إن أمي والله خير منك يا أبي!!.. قال الأب: لِمَ؟
قال الولد: لأنها أحسنت الاختيار فولدتني من حر، وأنت أسأت الاختيار فولدتني من أمَة!!..
ونحن لا نشك أن الكلمات النابية القبيحة التي تنزلق من الأب للولد لم تصدر إلا من غاية تأديبية إصلاحية.. لذنب كبير أو صغير وقع فيه وبدر منه!!.
أخلاق المنحرفين الحمقى:
ولكن المعالجة لارتكاب هذا الذنب لا تصلح بهذه الحالة الغضبية، والطريقة التعنيفية.. التي تترك آثاراً خطيرة في نفسية الولد وسلوكه الشخصي.. وبالتالي تجعل منه إنساناً يتطبع على لغة السبّ والشتائم، ويتخلق بأخلاق المنحرفين الحمقى.. ونكون بهذه المعاملة القاسية قد جنينا على الولد، وحطمناه نفسيّاً وخُلقيّاً من حيث نعلم أو لا نعلم، بدل أن نعدّه إنساناً متزناً عاقلاً سويّاً يمشي في دروب الحياة على نور العقل والاتزان والاستقامة والحق المبين..
معالجة الإسلام لأخطاء الأولاد:
ولكن ما هي معالجة الإسلام للولد إذا وقع منه خطأ أو صدرت هفوة؟
المعالجة الصحيحة أن ننبهه على خطئه برفق ولين، ونقنعه بالحجج الدامغة، وأن الذي صدر منه لا يرضى به إنسان عاقل ذو فهم وبصيرة وفكر ناضج رزين..
فإن فهم واقتنع وصلنا إلى ما نريد في إصلاح خطئه ومعالجة انحرافه.. وإلا فالمعالجة ستكون بأسلوب آخر وهو العقوبة.
وهذه الطريقة الرفيعة اللينة في التأديب هي طريقة الرسول (ص).
نماذج لمعاملة الإسلام ولينه ووصاياه:
وإليكم بعض النماذج في معاملته ولينه ووصاياه:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ (ص) فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا. قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟ قَالَ:لاَ، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟ قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ. قَالَ:أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟ قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ.قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ:ل اَ، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لاَ، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.[2]
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ.فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ.فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (ص) فَبِأَبِى هُوَ وَأُمِّى مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِى وَلاَ ضَرَبَنِى وَلاَ شَتَمَنِى قَالَ «إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»[3].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَبَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ (ص): مَهْ مَهْ. فَقَالَ النَّبِىُّ (ص): «لاَ تُزْرِمُوهُ». فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِهِ النَّبِىُّ (ص) فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُتَّخَذْ لِهَذَا الْخَلاَءِ وَالْبَوْلِ وَالْقَذَرِ، إِنَّمَا تُتَّخَذُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى». ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِذَنُوبٍ أَوْ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ.[4]
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (ص): «دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ - أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»[5]
وصايا الرسول (ص) في الرفق واللين:
ومن وصاياه عليه الصلاة والسلام في الرفق واللين:
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ (ص) فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ». قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ «قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ»[6] وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (ص) عَنِ النَّبِىِّ (ص) قَالَ «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ».[7]
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: رَكِبَتْ عَائِشَةُ بَعِيرًا، فَكَانَ مِنْهُ صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (ص):عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ.[8].
وعَنْ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ».[9]
ترسيخ ظاهرة الشعور بالنقص:
فالذي نخلص إليه بعد ما تقدم أن تحقير الولد وتعنيفه بشكل مستمر دائم – ولاسيما أمام الحاضرين – هو من أكبر العوامل في ترسيخ ظاهرة الشعور بالنقص.. ومن أعظم الأسباب في انحرافات الولد النفسية والخلقية.. وخير علاج لهذه الظاهرة هو تنبيه الولد على خطئه إذا أخطأ برفق ولين مع تبيان الحجج التي يقتنع بها في اجتناب الخطأ..
وعلى المربي إن أراد زجر الولد وتوبيخه ألا يكون ذلك أمام الحاضرين، كما يجب أن يسلك معه في بادئ الأمر الأسلوب الحسن في إصلاحه وتقويم اعوجاجه، وهذه الطريقة هي طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام في الإصلاح والتربية وتقويم الاعوجاج..
[1]- تنبيه الغافلين، الإصدار 2 - (1 / 19)
[2]- مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 407)(22211) 22564- صحيح
[3]- صحيح مسلم- المكنز - (1227 ) -كهر:نهر ووبخ
[4]- السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 413)(4312) صحيح
[5]- صحيح البخارى- المكنز - (6128 )
[6]- صحيح البخارى- المكنز - (6927 )
[7]- صحيح مسلم- المكنز - (6767 ) -شانه: الشين: ضد الزين، وهو العيب.
[8]- مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 323)(25386) 25900- صحيح
[9]- سنن أبي داود - المكنز - (4811 ) صحيح
التسميات
تربية نفسية