تنازع الولاءات وعلاقته بأزمات المواطنة والتنمية السياسية والثقافية والاجتماعية في المجتمع العربي

يُعدّ تنازعُ الولاء من أبرز أزمات المواطنة والتنمية السياسية والثقافية والاجتماعية في المجتمع العربي، وهو تعبير صارخ عن أزمات الهوية والانتماء، وأساسه تنشيط الهويات الكامنة، وهي هويات مناقضة للوطنية والقومية معاً.

والتنازعُ في دائرة الولاء أشدّ أثراً، وأكثر آنيةً في نفس الفرد من تنازع الانتماء؛ فالثاني يغلُبُ عليه ـ ولا سيّما في الدائرة الوطنية والقوميةـ الطابعُ الشكلي من جهة الإعلان عنه، والاستمرارية من جهة الوجود، في حين يغلب على الولاء الطابع النفسي والآنية.

فولاء الإنسان قد يتغيّر من جهة إلى أخرى، لكن تغيّره لا يصنعُ هويّة، ولا يلغي أخرى؛ فالهوية «قد تتعارض مع الولاء، ولكنّ الولاء لا يؤثّر في الهوية القومية للفرد»، من جهة انتمائه إلى أمته، وإن لم يعِ ذلك.

إنّ أسئلةَ الهويةِ في دائرتي الانتماء والولاء تتّجه نحوَ غايةٍ توحيدية أو تفتيتية، وتكون الأولى في تعزيز الولاء لدائرة انتمائية واسعة، كالوطنية والقومية، وهو تعزيز قد يصل إلى التنازع بينهما حين تُغلّبُ إحداهما على الأخرى، على نحو بالغ الضرر للثانية، كما هو الحال في الأزمات التي تنتج القطيعة لقطر عربي أو التخلّي عن نصرته، وكذلك الحال في الأزمات التي تنتج استهانة في تضحيات القطر لصالح الانتماء القومي.

فالأزمات بين مصر والأقطار العربية بعد زيارة الرئيس السادات للقدس، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد أثّرت بدرجة أو أخرى في الاتجاه العربي لمصر، وأتاحت فرصة لتنشيط الهويات الكامنة.

كما أن تنكّر بعض القيادات الفلسطينية واللبنانية للدور العربي السوري في نصرة لبنان وفلسطين ترك انطباعاً سيّئاً عند شريحة واسعة من الشعب العربي السوري، عبّرت عنه تساؤلات في أولوية الانتماء والولاء للوطني والقومي.

والتنازع في هاتين الدائرتين: الوطني والقومي يبقى قليل الخطورة ما دام منحصراً في أولويّة الولاء لكلّ منهما، لكنّه يغدو أكثر خطراً حين تتحالف القوى الحاكمة في قطر مع أعداء قطر آخر لتفتيته، وللتشكيك في عروبته، فينتج ذلك على المستويين: الوطني والقومي تنازعاً شديداً في نفوس الناس، يقتضي كثيراً من الوعي لمحاصرة آثاره المادية الآنية، بانتظار أوّل لقاء بين القطرين، حيث تتسع به دائرة التصالح بين الولاءين والانتماءين معاً لأصالة كلّ منهما، في التعبير عن الوجود التاريخي للناس، وعن مصالحهم وتطلّعاتهم المستقبلية المشتركة.

وإضافة إلى دائرتي الوطنية والقومية الواسعتين هناك دائرة أكثر اتساعاً هي الدائرة الإسلامية، وتنازع الولاء للدائرة الإسلامية كان في الغالب مع الدائرة القومية العربية.

فالقرن الماضي شهد قطيعة واسعة بينهما على المستوى السياسي والفكري، لكنّ التمازج الموضوعي بينهما كان أقوى من الفصل؛ ممّا تسبّب على مستوى الولاءـ في أواخر القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين ـ ميلاً نحو تصالح الولاءين على المستوى الفكري والسياسي والنضالي، المقاوم للعدوان الصهيوني ـ الأمريكي على العروبة والإسلام، وعلى وحدة الأوطان وحرّيتها في فلسطين ولبنان والعراق والسودان والصومال.

أمّا أسئلةُ الهويةُ التفتيتية في دائرتي الانتماء والولاء فتتجه نحو تفعيل الانتماءات الكامنة (العنصرية، والطائفية، والقبلية) لتُستبدل بالهوية القومية بعد تفتيت الوطنية، وإضافة إلى تفعيل تلك الانتماءات تُثارُ لتغذيتها نعرات الانتماء العائلي والمناطقي.

ولعلّ من المفيد كثيراً الإقرار بوجود تلك الانتماءات، وبأنّه لا ضرر منها، إذا كان ولاء المنتمين إليها للوطن والأمة، لكن الخطورة تكمن في الاتجاه نحو إلغاء القومي بتفتيت الوطني.

فالوحدة الوطنية ضمان الانتقال إلى دائرة العروبة، وضمان التصالح والتعايش معها. وبذلك يغدو السعي لتفتيت الوطني محاولة لصنع واقع، يُلغى فيه المنجز التاريخي الوطني والقومي معاً.

وإيقاظ الانتماءت والولاءات التفتيتية قد يكون على نحو ظاهر، ولا سيّما حين تستقوي بالخارج، لكن ينبغي التنبّه إلى أن مسؤولية ذلك لا تقع على القوى المناوئة فحسب، بل قد يكون لأصحاب الانتماءات والولاءات الوطنية والقومية دورٌ كبير في الإساءة إلى أنفسهم، وقد لا يقلّ خطورة عن تأثير القوى الخارجية.

ولذلك أسباب، أهمها تضاؤل دور المواطنة، والإحساس بالتمييز بين المواطنين على أسس حزبية أو طائفية أو دينية أو عنصرية، وهو إحساس يولّد الأحقاد والكراهية، ويُنبتُ الانتماءات والولاءات غير المعلنة.

ولعلّ من المهمّ جدّاً أنْ يُشار ابتداءً إلى خطورة غير المعلن، لاحتمال أن يكون الخفيُّ مبعثَ سلوكٍ خطرٍ جدّاً في دائرة الهوية؛ فهو منغلقٌ على نفسه، ومنفتحٌ سلوكُ أفراده على احتمالات عنيفة، حين يُعبّر عن نفسه على نحو مفاجئ ومخالف للهوية المعلنة في محيطه.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال