توازن التربية الإسلامية وشموليتها لعدد من المحاور والمجالات

مع شمول العقيدة الإسلامية وترابطها فهي تتسم أيضاً بالتوازن.
ويبدو هذا التوازن كذلك على مجموعة من المحاور المختلفة ومجموعة من المجالات:
1- توازن بين الروح والجسد أو عالم المعنويات وعالم الحس.
2- توازن بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
3- توازن بين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب.
4- توازن بين جوانب الحياة المختلفة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية..إلخ.

ولنقل كلمة سريعة عن كل مجال من هذه المجالات:
1- الإنسان قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله.وهناك توازن دقيق بين عنصريه المكونين له،يختل إذا أعطينا أحدهما من العناية والالتفاف أكثر من حقه.

والجاهليات دائماً تختل في هذا الأمر فتؤكد على جانب الروح وحدها كالهندوكية والبوذية أو جانب الجسد وحده كالجاهلية المعاصرة في شرق أوربا وغربها سواء.

ومن خصائص العقيدة الإسلامية أنها توازن بينهما التوازن الصحيح.فمن ناحية هي تمزج بين عالم الجسد وعالم الروح وتشركهما معاً في مجال العمل ومجال التعبد سواء،ومن ناحية أخرى تعطي كلاً منهما حقه.

فلا تشغل الإنسان بعالم الحس وتكبت روحه كالجاهلية المعاصرة،ولا تشغله بأمور روحه على حساب كيانه المادي ومطالب جسده كالجاهلية الهندوكية والبوذية:عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ (ص) قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ أَتَزَوَّجُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُصَلِّي وَلاَ أَنَامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصُومُ وَلاَ أُفْطِرُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ (ص) فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي."[1]

وتقوم الحضارة الإسلامية المنبثقة من العقيدة على أساس الجانب المادى والروحى سواء:

1- يتطلب الإسلام الإيمان بالغيب،لأنه عن طريقه يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكنه لا يطلب منه أن يهمل عالم الشهود. بل إنه فى عرضه لحقائق العقيدة بكثير من الإشارة إلى آيات الله فى الكون لكى يتدبرها الإنسان ويصل عن طريق تدبرها إلى الإيمان بالله.

ومن هنا لا يلجأ الإسلام إلى الغيبوبة الروحية التى يقع فيها بعض المتطرفين فى العبادة زعماً منهم أنهم يستغنون بشهود الذات الإلهية عن شهود الكون الذي خلقه الله، وكذلك لا يقبل أن ينشغل الإنسان بالكون المشهود عن عالم الغيب فيقطع صلته بالله واليوم الآخر كما تصنع جاهلية اليوم.

2- قلنا من قبل إن الإسلام لا يفصل بين الدنيا والآخرة، ونقول هنا: إن هذا الربط ذاته هو الذي يوازن بين الدنيا والآخرة فى هذه العقيدة، إذ يحدث عدم التوازن حين تنفصل عن الآخرة فى حس الإنسان، فيقوم بأعمال على أنها للدنيا وحدها منفصلة عن الآخرة، وأعمال أخرى على أنها للآخرة وحدها منفصلة عن الدنيا، عندئذ لابد أن يحدث الاختلال فى حسه فتغلب مجموعة من الأعمال على الأخرى. فإما أن تجذبه الدنيا رويداً رويداً حتى ينسى الآخرة، وإما أن تجذبه الآخرة رويداً رويداً حتى ينسى الدنيا. وكلاهما فى نظر الإسلام اختلال.فالأول ينشغل بالسعى وراء الرزق والحصول على أكبر قدر من متاع الدنيا،والآخر يزهد فى متاع الدنيا وينشغل عن طلب الرزق وتعمير الأرض.ويصبح كل منهما مقصراً وآثماً فى حق الله.

إنما يحدث التوازن الذي تشير إليه الآية: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص.

حين ترتبط الدنيا والآخرة فى حس الإنسان فيعمل للآخرة وهو يعمل للدنيا فى ذات الوقت.فلا يهمل العبادة ولا يهمل عمارة الأرض.
وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة. ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا ،كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.

لقد خلق اللّه طيبات الحياة ليستمتع بها الناس وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها ،فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم ،وتقبل لعطاياه ،وانتفاع بها.فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها اللّه بالحسنى.

وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.

«وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ».. فهذا المال هبة من اللّه وإحسان.فليقابل بالإحسان فيه. إحسان التقبل وإحسان التصرف، والإحسان به إلى الخلق، وإحسان الشعور بالنعمة، وإحسان الشكران.

«وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ»..الفساد بالبغي والظلم. والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة اللّه ومراعاة الآخرة.[2]

3- التوازن فى حس المسلم بين الإيمان بالقدر وبين الأخذ بالأسباب. وهو من أجمل خصائص العقيدة الإسلامية. إن المتواكلين يزعمون أنهم يتوكلون على الله ثم يهملون الأخذ بالأسباب. إن المتواكلين يزعمون أنهم يتوكلون على الله ثم يهملون الأخذ بالأسباب جملة فيصيبهم ما يصيبهم من فقر ومرض وجهل وعجز وهوان فى الأرض.وإن الجاهلية الأوربية من جانب آخر تأخذ بالأسباب منقطعة عن الله وقدره،فتنتج إنتاجاً مادياً ضخماً ما يصيبها من قلق واضطراب وأمراض عصبية ونفسية وجنون وانتحار وضياع لأنها تفقد الطمأنينة التى يجدها المؤمن لذكر الله ولقدر الله.

والإسلام يوازن موازنة جميلة بين هذين الحدين المتطرفين،فهو يعلم الناس أن هناك سننا ربانية يدير الله بها الكون المادى والحياة البشرية.وأنه لابد من اتباع هذه السنن ومجاراتها إذا رغبنا فى الوصول إلى نتائج معينة، ومقتضى ذلك هو الأخذ بالأسباب. ولكنه فى الوقت ذاته يربى المؤمن على ألا يتكل على الأسباب الظاهرة فيحبط عمله، إنما يظل قلبه موصولا بالله،متطلعا إليه أن ينجح مسعاه ويوصله إلى النتائج المرغوبة.

وبذلك يتوازن الإنسان فى سعيه فى الأرض لا يهمل الأسباب ويتواكل،ولا يكف عن التطلع إلى قدر الله.

4- أخيراً نقول: إن هذه العقيدة توازن بين جوانب الحياة الإنسانية المختلفة فلا يطغى منها جانب على جانب.
فكما أن الجانب الروحي لا يطغى على الجانب المادي،فكذلك لا يطغى الجانب السياسي على الاقتصادي، ولا الاقتصادي على الخلقي وهكذا. بل تتوازن جوانب الحياة كلها على محور العقيدة الرئيس الذي مقتضاه الإيمان بالله والالتزام بما أنزل الله،فتسير كلها متوازية متوازنة فى آن واحد [3].

لذلك فهي تهتم بتربية جميع جوانب الإنسان الخلُقية والجسمية والعقلية،وتحقق التوازن بين مطالب الإنسان الجسدية والروحية، فلا يطغى جانب على جانب آخر، بحيث تجعل الإنسان في صراع نفسي وعناء داخلي، وكبت لغرائزه التي فطره الله عليها، فعندما أمر الله تعالى بالأخلاق الفاضلة حذر الإنسان من الرذائل، وشرع له الطرق والسبل لإقامة ذلك التوازن، فأباح له مثلاً الزواج، وتعدد الزوجات إلى أربع، وحذره من رذيلة الزنا، ووضع لها حدًّا في الشرع.

 ولحاجة الإنسان للمال أحلَّ له التجارة،وحثه على العمل والكسب الحلال، وحرم عليه الربا،قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة.

ولحاجة الإنسان إلى الطعام أحل له الطيبات من الرزق وحرم عليه الخبائث من الأطعمة والأشربة، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (4) سورة المائدة.

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف.

 وبهذا يتضح أن التوازن سمة من سمات التوجيه الإسلامي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للفرد أن يحيد عن الفضيلة الخلُقية ليقترف رذيلة أو يسلك طريقاً معوجا ليشبع حاجة من حاجاته،فلا إفراط ولا تفريط ،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (ص) فَقَالَ «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ». قُلْتُ بَلَى. قَالَ «فَلاَ تَفْعَلْ، قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّكَ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ، وَإِنَّ مِنْ حَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ،فَإِنَّ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ». قَالَ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَىَّ فَقُلْتُ فَإِنِّى أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ «فَصُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ». قَالَ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَىَّ قُلْتُ أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ «فَصُمْ صَوْمَ نَبِىِّ اللَّهِ دَاوُدَ». قُلْتُ وَمَا صَوْمُ نَبِىِّ اللَّهِ دَاوُدَ قَالَ « نِصْفُ الدَّهْرِ»[4].

وعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبَى الدَّرْدَاءِ، قَالَ فَجَاءَ سَلْمَانُ يَزُورُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَتِّلَةً،فقَالَ:مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ:إِنَّ أَخَاكَ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، رَحَّبَ بِهِ سَلْمَانُ، وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: اطْعَمْ، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلاَّ طَعِمْتَ، فَإِنِّي مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ مَعَهُ وَبَاتَ عِنْدَهُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ، قَامَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَحَبَسَهُ سَلْمَانُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَائْتِ أَهْلَكَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، قَالَ: قُمِ الآنَ، فَقَامَا فَصَلَّيَا ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّلاَةِ، فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ (ص)، قَامَ إِلَيْهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ سَلْمَانُ، فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (ص)، مِثْلَ مَا قَالَ سَلْمَانُ.[5]

فنلاحظ في التوجيه النبوي التوازن بين مطالب الجسد والروح، والتوازن الخلقي بين حق الله،وحق الأهل وحق الضيف، وحق النفس.

[1]- مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 617) (13534) 13568- صحيح.
[2]- فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2711).
[3]- ركائز الإيمان بتحقيقي ص (427- 430).
[4]- صحيح البخارى- المكنز - (6134) وصحيح مسلم- المكنز - (2795) - الزور: الزائر.
[5]- صحيح البخارى- المكنز - (1968) وصحيح ابن حبان - (2 / 23)(320).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال