تنزيه سبحانه الله تعالى وطاعته ومراقبة الله سبحانه وتعالى في سر السر والعلن

جاءت الرسالات السماوية كلها توضح وتؤكد تنزيه الخالق فهو مُنزّه عن الشركاء،له الألوهية وحده وله الربوبية وحده، وله الحاكمية وحده،وله الأمر والنهي وحده، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (43) سورة الإسراء [1].

وقال تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى.

الله سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض ومبدعهما بقدرته ومشيئته وحكمته، جعل لكم من أنفسكم أزواجًا؛لتسكنوا إليها، وجعل لكم من الأنعام أزواجًا ذكورًا وإناثًا، يكثركم بسببه بالتوالد، ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ لأن أسماءه كلَّها حسنى،وصفاتِه صفات كمال وعظمة، وأفعالَه تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك،وهو السميع البصير، لا يخفى عليه مِن أعمال خلقه وأقوالهم شيء، وسيجازيهم على ذلك.[2]

فليس هنالك من شيء يماثله (سبحانه وتعالى) :«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ».. والفطرة تؤمن بهذا بداهة. فخالق الأشياء لا تماثله هذه الأشياء التي هي من خلقه.. ومن ثم فإنها ترجع كلها إلى حكمه عند ما تختلف فيما بينها على أمر، ولا ترجع معه إلى أحد غيره لأنه ليس هناك أحد مثله،حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف.

ومع أنه - سبحانه - «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» ..فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل. فهو يسمع ويبصر:«وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».. ثم يحكم حكم السميع البصير.

ثم إنه إذ يجعل حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو الحكم الواحد الفصل.يقيم هذا على حقيقة أن مقاليد السماوات والأرض كلها إليه بعد ما فطرها أول مرة، وشرع لها ناموسها الذي يدبرها:«لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ».. وهم بعض ما في السماوات والأرض،فمقاليدهم إليه.[3]

وعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ:سُئِلَ رَسُولُ اللهِ (ص) أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللهِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (68) سورة الفرقان[4]

وعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ:سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (ص) :أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ.[5]

لا بد للمربين أن يغرسوا في نفوس أطفالهم أن الله واحد لا شريك له ونتوجه له بالعباده والإخلاص قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) سورة الفاتحة.

وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة. فلا عبادة إلا للّه، ولا استعانة إلا باللّه.

وهنا كذلك مفرق طريق ..مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام. والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع.

وإذا كان اللّه وحده هو الذي يعبد، واللّه وحده هو الذي يستعان، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات..

وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية، ومن القوى الطبيعية ..
فأما القوى الإنسانية - بالقياس إلى المسلم - فهي نوعان:قوة مهتدية، تؤمن باللّه، وتتبع منهج اللّه..

وهذه يجب أن يؤازرها، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح.. وقوة ضالة لا تتصل باللّه ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها.

ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية.فهي بضلالها عن مصدرها الأول - قوة اللّه - تفقد قوتها الحقيقية. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها. وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب، فما يلبث أن ينطفئ ويبرد ويفقد ناره ونوره، مهما كانت كتلته من الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ»..
غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعا.

وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة،لا موقف التخوف والعداء. ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة اللّه ومشيئته. محكومتان بإرادة اللّه ومشيئته، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه.

إن عقيدة المسلم توحي إليه أن اللّه ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها.ويتعرف إليها،ويتعاون وإياها، ويتجه معها إلى اللّه ربه وربها.

وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.

ولقد درج الغربيون - ورثة الجاهلية الرومانية - على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: «قهر الطبيعة».. ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة باللّه، وبروح الكون المستجيب للّه.

فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة للّه رب العالمين..

فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة. إنه يعتقد أن اللّه هو مبدع هذه القوى جميعا. خلقها كلها وفق ناموس واحد، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس. وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها. وأن على الإنسان أن يشكر اللّه كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها. فاللّه هو الذي يسخرها له، وليس هو الذي يقهرها:«سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ..

وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ولن تقوم بينه وبينها المخاوف ..إنه يؤمن باللّه وحده،ويعبد اللّه وحده، ويستعين باللّه وحده. وهذه القوى من خلق ربه. وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها، فتبذل له معونتها، وتكشف له عن أسرارها. فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود.. وما أروع قول الرسول (ص) وهو ينظر إلى جبل أحد: «هذا جبل يحبنا ونحبه».. ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد (ص) من ود وألفة وتجاوب، بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها.[6]

وبعد أن نبين لهم ذلك ونوضح لهم أن الله رقيب علينا وعلى كل شيء في الكون، بعد ذلك نشعرهم بأن الله يراقبنا في السرِّ والعلن.

"أما ترويضه [الطفل] على مراقبة الله وهو يعمل، فليتعلم الإخلاص لله رب العالمين في كل أقواله وأعماله وسائر تصرفاته.

أما ترويضه على مراقبة الله وهو يفكر فليتعلم الأفكار التي تقربه من خالقه العظيم،والتي بها ينفع نفسه وينفع مجتمعه وينفع الناس أجمعين، بل يجب أن يروَّض على أن يكون عقله وقلبه وهواه تبعاً لما جاء به خاتم الأنبياء (ص).

أما ترويضه على مراقبة الله وهو يحس... فليتعلم كل إحساس نظيف،وليتربّى على كل شعور طاهر... فلا يحسد، ولا يحقد، ولا ينمّ، ولا يتمتع المتاع الدَّنِس، ولا يشتهي الشهوات الباطلة..[7]

فالله سبحانه وتعالى يسمع ويرى كل شيء سواء في السر والجهر قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ {9} سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} سورة الرعد.

يَعْلَمُ اللهُ تَعَالَى كُلَّ شَيءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ العِبَادُ، وَمِمَّا يَغِيبُ عَنْهُمْ مِنْ عَوَالِمٍ لاَ نِهَايَةَ لَهَا، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْهُ، وَهُوَ الكَبِيرُ المُتَعَالِي عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْماً.

وَسَواءٌ عِنْدَ اللهِ مَنْ أَسَرَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، أَوْ جَهَرَ بِهِ وَأَعْلَنَهُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُهُ جَمِيعاً وَيَسْمَعُهُ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيءٌ؛ وَسَواءٌ عِنْدَهُ مَنِ اسْتَخْفَى فِي بَيْتِهِ فِي ظَلاَمِ اللَّيْلِ، وَمَنْ ظَهَرَ وَسَارَ فِي النَّهَارِ (سَارِبٌ بِالنَّهَارِ)، فَإِنَّهُمَا فِي عِلْمِ اللهِ عَلَى السَّوَاءِ .[8]

وبالتالي يشعر بان الله يراقبه فهذا ينعكس إيجابا علي سلوكه وشعوره وتصرفاته.
وقال رسول الله (ص) عن الإحسان: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ،فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ )[9]

وقال النووي:معناه أنك إنما تراعى الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك، لكونه يراك لا لكونك تراه فهو دائما يراك، فأحسن عبادته وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك. قال: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها (ص)، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعا من التلبس بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه في سره وعلانيته؟ انتهى[10]

ماذا يجني أطفالنا من غرس روح المراقبة في نفوسهم؟:
- إن مراقبه الله في السر والعلن توقظ في ضميره الخوف فيبعده عن ارتكاب الذنوب والمعاصي فإذا أخطأ أو زل بسبب ضعفه البشري فإنه سرعان ما يبادر إلى التوبة والاستغفار.
- والمراقبة تؤدي إلى الحياء.
وما أحوج الولد وهو صغير إلى هذا التوجيه حتى يواجه الحياة بنفسه مطمئنه وضمير يقظ واع يفسح أمامه الطريق ليخدم نفسه وأسرته ومجتمعه وبلاده."[11]

[1]- سهام مهدي جبار، الطفل في الشريعة الإسلامية ومنهج التربية النبوية، ص 192.
[2]- التفسير الميسر - (8 / 432).
[3]- فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3146).
[4]- صحيح البخارى- المكنز - (4477) وصحيح مسلم- المكنز - (267) وصحيح ابن حبان - (10 / 261) (4414).
[5]- صحيح البخارى- المكنز - (7520) وصحيح ابن حبان - (10 / 262)(4415).
[6]- فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 25).
[7]- علوان،عبد الله ناصح، تربية الأولاد في الإسلام،جـ1/169-170.
[8]- أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1717).
[9]- صحيح البخارى- المكنز - (50 ) وصحيح مسلم- المكنز - (102) وصحيح ابن حبان - (1 / 375) (159).
[10]- فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار الفكر - (1 / 120).
[11]- سهام ص 196.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال