شكر الله اعترافاً بالجميل لأن الشكر يتحقق بالعبادة والطاعة

 "وواجبنا ...أن نلفت دائماً أنظار أولادنا إلى هذا الإنسان وما فيه من نِعَم ربانية لا تحصى، أو أن نُعلّمهم أن علينا واجباً نحو خالقنا –سبحانه وتعالى- الذي تفضل علينا بالنعم وهذا الواجب يتمثل بشكره تعالى على نعمه، وأن نقول لهم أن الشكر يتحقق بالعبادة والطاعة،{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (18) سورة النحل

ما يجني العبد من شكره لله تعالى:
(1) الحفاظ على النعمة وعدم زوالها:
قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (112) سورة النحل وهي حال أشبه شيء بحال مكة.جعل اللّه فيها البيت، وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن، لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلا، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت اللّه الكريم.

وكان الناس يتخطفون من حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون.
كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع، فكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل.

ثم إذا رسول منهم،يعرفونه صادقا أمينا،ولا يعرفون عنه ما يشين،يبعثه اللّه فيهم رحمة لهم وللعالمين، دينه دين إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة والعيش الرغيد فإذا هم يكذبونه، ويفترون عليه الافتراءات، وينزلون به وبمن اتبعوه الأذى.وهم ظالمون.

والمثل الذي يضربه اللّه لهم منطبق على حالهم، وعاقبة المثل أمامهم.مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم اللّه، وكذبت رسوله «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون.

ويجسم التعبير الجوع والخوف فيجعله لباسا ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا،لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد.

وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولذعه وتأثيره وتغلغله في النفوس. لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون.[41]

(2) زيادة النعمة:
قال تعالى :{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (7) سورة إبراهيم.

ونقف نحن أمام هذه الحقيقة الكبيرة:حقيقة زيادة النعمة بالشكر،والعذاب الشديد على الكفر.
نقف نحن أمام هذه الحقيقة تطمئن إليها قلوبنا أول وهلة لأنها وعد من اللّه صادق.

فلا بد أن يتحقق على أية حال.. فإذا أردنا أن نرى مصداقها في الحياة،ونبحث عن أسبابه المدركة لنا،فإننا لا نبعد كثيرا في تلمس الأسباب.

إن شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية.
فالخير يشكر لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة ..
هذه واحدة .. والأخرى أن النفس التي تشكر اللّه على نعمته، تراقبه في التصرف بهذه النعمة. بلا بطر، وبلا استعلاء على الخلق،وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والدنس والفساد.

وهذه وتلك مما يزكي النفس، ويدفعها للعمل الصالح،وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك فيها ويرضي الناس عنها وعن صاحبها، فيكونون له عونا ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان. إلى آخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة. وإن كان وعد اللّه بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن،أدرك الأسباب أولم يدركها،فهو حق واقع لأنه وعد اللّه.

والكفر بنعمة اللّه قد يكون بعدم شكرها.أو بإنكار أن اللّه واهبها،ونسبتها إلى العلم والخبرة والكد الشخصي والسعي! كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم اللّه! وقد يكون بسوء استخدامها بالبطر والكبر على الناس واستغلالها للشهوات والفساد .. وكله كفر بنعمة اللّه ..
والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة.عينا بذهابها. أو سحق آثارها في الشعور.فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ويحسد الخالين! وقد يكون عذابا مؤجلا إلى أجله في الدنيا أو في الآخرة كما يشاء اللّه. ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة اللّه لا يمضي بلا جزاء.

ذلك الشكر لا تعود على اللّه عائدته. وهذا الكفر لا يرجع على اللّه أثره.فاللّه غني بذاته محمود بذاته، لا بحمد الناس وشكرهم على عطاياه.
«وَقالَ مُوسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ».. إنما هو صلاح الحياة يتحقق بالشكر، ونفوس الناس تزكو بالاتجاه إلى اللّه،وتستقيم بشكر الخير،وتطمئن إلى الاتصال بالمنعم، فلا تخشى نفاد النعمة وذهابها،ولا تذهب حسرات وراء ما ينفق أو يضيع منها. فالمنعم موجود،والنعمة بشكره تزكو وتزيد.[42]

فالمخلفون من الأعراب - وكانوا من أعراب غفار ومزينة وأشجع وأسلم وغيرهم ممن حول المدينة - سيقولون اعتذارا عن تخلفهم: «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا».. وليس هذا بعذر. فللناس دائما أهل وأموال.ولو كان مثل هذا يجوز أن يشغلهم عن تكاليف العقيدة،وعن الوفاء بحقها ما نهض أحد قط بها.. وسيقولون «فَاسْتَغْفِرْ لَنا».. وهم ليسوا صادقين في طلب الاستغفار كما ينبئ اللّه رسوله -ص-: «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ»..

هنا يرد عليهم بتقرير حقيقة القدر الذي لا يدفعه تخلف،ولا يغيره إقدام وبحقيقة القدرة التي تحيط بالناس وتتصرف في أقدارهم كما تشاء. وبحقيقة العلم الكامل الذي يصرف اللّه قدره على وفقه: «قُلْ:فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟ بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»..

وهو سؤال يوحي بالاستسلام لقدر اللّه والطاعة لأمره بلا توقف ولا تلكؤ.فالتوقف أو التلكؤ لن يدفع ضررا، ولا يؤخر نفعا. وانتحال المعاذير لا يخفى على علم اللّه.ولا يؤثر في جزائه وفق علمه المحيط.وهو توجيه تربوي في وقته وفي جوه وفي مناسبته على طريقة القرآن.«بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً،وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ،وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ،وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً»..

وهكذا يقفهم عرايا مكشوفين،وجها لوجه أمام ما أضمروا من نية،وما ستروا من تقدير، وما ظنوا باللّه من السوء.وقد ظنوا أن الرسول ومن معه من المؤمنين ذاهبون إلى حتفهم، فلا يرجعون إلى أهليهم بالمدينة وقالوا: يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة،وقتلوا أصحابه فيقاتلهم! - يشيرون إلى أحد والأحزاب - ولم يحسبوا حسابا لرعاية اللّه وحمايته للصادقين المتجردين من عباده. كما أنهم - بطبيعة تصورهم للأمور وخلو قلوبهم من حرارة العقيدة - لم يقدروا أن الواجب هو الواجب، بغض النظر عن تكاليفه كائنة ما كانت وأن طاعة رسول اللّه - ص- يجب أن تكون بدون النظر إلى الربح الظاهري والخسارة الشكلية، فهي واجب مفروض يؤدى دون نظر إلى عاقبة أخرى وراءه.

لقد ظنوا ظنهم،وزين هذا الظن في قلوبهم، حتى لم يروا غيره،ولم يفكروا في سواه.وكان هذا هو ظن السوء باللّه،الناشئ من أن قلوبهم بور. وهو تعبير عجيب موح.فالأرض البور ميتة جرداء.وكذلك قلوبهم.

وكذلك هم بكل كيانهم.بور.لا حياة ولا خصب ولا إثمار. وما يكون القلب إذ يخلو من حسن الظن باللّه؟
لأنه انقطع عن الاتصال بروح اللّه؟ يكون بورا.ميتا أجرد نهايته إلى البوار والدمار.

وكذلك يظن الناس بالجماعة المؤمنة. الناس من أمثال أولئك الأعراب المنقطعين عن اللّه. البور الخالية قلوبهم من الروح والحياة.هكذا يظنون دائما بالجماعة المؤمنة عند ما يبدو أن كفة الباطل هي الراجحة،وأن قوى الأرض الظاهرة في جانب أهل الشر والضلال وأن المؤمنين قلة في العدد، أو قلة في العدة،أو قلة في المكان والجاه والمال. هكذا يظن الأعراب وأشباههم في كل زمان أن المؤمنين لا ينقلبون إلى أهليهم أبدا إذا هم واجهوا الباطل المنتفش بقوته الظاهرة. ومن ثم يتجنبون المؤمنين حبا للسلامة ويتوقعون في كل لحظة أن يستأصلوا وأن تنتهي دعوتهم فيأخذون هم بالأحوط ويبعدون عن طريقهم المحفوف بالمهالك! ولكن اللّه يخيب ظن السوء هذا ويبدل المواقف والأحوال بمعرفته هو،وبتدبيره هو،وحسب ميزان القوى الحقيقية.[43]

[41] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2199)
[42] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2088)
[43] - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3321)
أحدث أقدم

نموذج الاتصال