المدرسة والسلطة السياسية.. من احتكار الدولة لتحديد المنظومة المدرسية إلى إشراك القوى المجتمعية في هندسة الإصلاح التعليمي

من خلال تتبعنا (المتواضع) لدينامية الحقل السياسي المغربي، نلاحظ بأن المغرب السياسي شهد على امتداد قرابة 40 سنة الأخيرة انتقالا بطيئا وعنيفا من منظومة سياسية كليانية واستبدادية إلى منظومة منظومة سياسية حداثية و ديمقراطية ـ إلى حد ما ـ في إطار مسلسل التوافق بين الدولة وبعد الأحزاب الوطنية المعارضة.

وهذا المشهد انعكس كذلك على السياسة التعليمية /المدرسة؛ فبعدما كانت الدولة هي الوحيدة التي تحتكر تحديد المنظومة المدرسية في أبعادها التنظيمية والإيديولوجية والمعرفة والقيمة، لصبحنا نشهد تفتحا ديمقراطيا للدولة، حيث أصبح التعليم –إلى حد ما- شانا عاما، وذلك بإشراك بعض القوى المجتمعية في هندسة ا لإصلا ح التعليمي الأخير، المتمثل في" الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، حيث ضمت "اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين" (المسؤولة عن صياغة الميثاق) 33 عضوا بالإضافة إلى رئيسها، حيث توزعت مرجعياتهم الإنتمائية كالتالي:
- المجلس العلمية مثلت بنسبة %6.
- المركزيات النقابية%23.
- الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان بنسبة%41.
- %30 الباقية هي عبارة عن أعضاء وشخصيات مختلفة المواقع والمسؤوليات(؟!)
أهم ما يمكن تسجيله هنا هو هيمنة السياسي، حيث شكل %41 من مجموع أعضاء اللجنة الخاصة.

إذا كانت السياسة من بين ما تعنيه: "هي مجموعة الجهود المبذولة في سبيل المشاركة في السلطة، أو التأثير على توزيع السلط بين الدول أو بين المجموعات المختلفة داخل الدولة نفسها"(1) وأهم هذه الجهود المبذولة تعتمد، وبشكل كبير، على نشر وتكريس الاختيارات الإيديولوجية لكل قوة سياسية داخل المجتمع، وذلك إما من أجل المحافظة على السلطة أو الوصول إلى السلطة( بالمعنى الضيق).

ويمكننا تحديد عناصر المنظومة الإيديولوجية المتفاعلة/المتصارعة في الحقل السياسي المغربي في:
- التراثية- المحافظة.
- الرأسمالية- الليبرالية والتقني-اقتصادوية.
- الاشتراكية-العلمية-الديمقراطية التحررية- العلمانية...(اليسار).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن جل التشكيلات الحزبية المغربية غير متجانسة ومنسجمة من حيث حقيقة إيديولوجيتها والفئة/ الطبقة التي تمثلها اجتماعيا، إذ يمكننا ملاحظة خليطا من الإيديولوجيات في الخطاب السياسي، وخليطا من الفئات المجتمعية المتباينة طبقيا ومصلحيا داخل نفس الحزب السياسي! وهذا ما قد يفسر "صعوبة" التصنيف السياسي الكلا سيكي: يسار، يمين، وسط!

وهذه نتيجة طبيعية لتفشي عدة ظواهر سياسية سلبية كالأمية السياسية لغالبية الشعب (بل أحيانا نجدها حتى عند بعض الفاعلين السياسيين؟!)، تفشي الخطابات السياسية الديماغوجية المتسترة، والتناسل غير الطبيعي للأحزاب، وربما بشكل أكثر تفشي الوصولية السياسية والتوافقية البرغماتية الصرفة!

و الذي يهمنا هنا، هو كيف ينعكس و يفتعل هذا المشهد الإيديو-سياسي داخل المنظومة التعليمية / المدرسة (وبصفة خاصة في الميثاق الوطني والتكوين).

إن المجال هنا لا يسمح لنا بالدخول في التدقيقات للإجابة على هذا التساؤل الكبير، ويكفي أن نقول بأنه يمكن للمتتبع أن يلاحظ هيمنة القوى الإيديولوجية و السياسية ذات النزوعات التراثية المحافظة، والرأسمالية ـالليبرالية ذات التوجه التقنوـ اقتصادي، على الاختيارات التعليمية للمدرسة المغربية (وسنرى ذلك بتفصيل لاحقا ).

فإذا كانت القوى السياسية الثراتية المحافظة ، تجد تبريرها التاريخي في مطلب المحافظة على الهوية والقيم الدينية الإسلامية ، فإنها تعكس، كذلك، نوعا من المحافظة على واقع سوسيو-ثقافي وسياسي ما! يحاول تحقيق استمرار يته في الزمان والمكان المعاصرين عبر زواج استراتيجي وواقعي بالإيديولوجية الرأسمالية الليبرالية بحكم التبعية والقوة السياسيين والعلميين للآخر(الغرب أساسا).

والمنظومة المدرسية، هي الأخرى، لا تنفلت من قبضة هذه السلطة/ السلط المهيمنة، حيث نجد هيمنة السلط التراثية المحافظة والرأسمالية (مع بعض الليبرالية)، ويمكننا أن نستدل على ذلك ببعض المقاطع من"الميثاق الوطني للتربية والتكوين" المؤسس للمشروع المدرسي الجديد:

1- "يلتحم النظام التربوي للمملكة المغربية بكيانها العريق القائم على ثوابت ومقدسات يجليها الإيمان بالله وحب الوطن والتمسك بالملكية الدستورية".

2- "يندرج النظام التربوي في حيوية نهضة البلاد الشاملة القائمة على التوفيق الإيجابي بين الوفاء للأصالة والتطلع الدائم للمعاصرة...".
كما يهدف الميثاق إلى تكوين المواطن "...المطبوع بروح المبادرة الإيجابية والإنتاج النافع..."

هذه فقط بعض الأمثلة الدالة من الميثاق الذي لا نجد فيه عناء كبيرا في الكشف عن السلطة التراثية المحافظة، عكس سلطة التوجهات الرأسمالية والليبرالية، التي قد لا تبدو واضحة ومنتظمة بشكل نسقي ومباشر؛ جلها موزع على جغرافيا الميثاق بشكل إيحائي (وقد يكون متسترا) كتبوء المطلب الاقتصادي والمهني حيزا كبيرا في استراتيجيته النهائية، والدعوة إلى الاهتمام بالفرد والفردانية و"الحرية" وتقوية التنافسية، والجودة...

ورغم آليات ثقافة/سياسة التوافق بين قوى اليمين وبعض القوى المحسوبة على اليسار، فإن كفة السلطة/السلط المتحكمة في هندسة" المدرسة الجديدة" لازالت تميل لصالح قوى اليمين المدعمة بسلطة الهوية أو سلطة التبعية للدوائر الرأسمالية، مع بعض التفتح"الحداثي" على بعض مطالب اليسار، كالقبول بإدخال قيم الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان(بما فيها الحق الثقافي..) إلى المدرسة المغربية.

(1)- ماكس فيبر، Le savant et le politique(ورد في المرجع3، ص ص25-26).

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال