إن مختلف السلط السالفة التي رأيناها، وإن كانت تطغى عليها التوجهات الإيديولوجية والقيمية بشكل عام، فهي كذلك تقدم نفسها عبر أشكال معرفية وخلفيات فكرية معينة، والتي نجدها حاضرة وموظفة في المدرسة كحمولات تربوية وبيداغوجية.
وبما أن المعرفي يمكن إدخاله في باب الإنتاجات الرمزية للمجتمع فإن المنظومات الرمزية، بما هي أدوات تواصل ومعرفة تشكل بنيات تخضع العالم لبنيات، تؤدي وظيفتها السياسية من حيث هي أدوات لفرض السياسة إعطائها صفة المشروعية التي تساهم في هيمنة طبقة على طبقة... هذا معطى يجب الانتباه إليه.
نعم، الكل يقر بأن المدرسة هي مؤسسة للمعرفة والعلم، ولكن كيف؟
إلى أي حد هذا صحيح؟
عند تحديد وهندسة الغايات الكبرى للسياسة التعليمية، نلاحظ بسهولة تحكم السياسي (أو غيره من السلط) في ذلك، وتبقى السلطة المعرفية-العلمية (الفاعلون المعرفيون والعلميون) آخر من يعلم! حيث العلمي- المعرفي (البيداغوجي) يأتي غالبا بعد السياسي للاستشارة أو التطبيق ليس إلا! أي تهميش الفاعل العلمي عند صناعة القرار البيداغوجي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نجد غالبا نوع المعارف وطبيعة العلم الموظف من طرف السلطة/ السلط المتحكمة سياسيا في المجتمع، تبقى في خدمة السياسي أساسا، حيث المعرفة في علاقتها بالسلطة ملحقة وتابعة، ويبدو الخطاب العلمي (وخصوصا داخل المدرسة) ملحقا بالخطاب السياسي، يستخدم كوسيلة تبريرية لأهداف تقع خارج العلم، أهداف إيديولوجية تتجه مباشرة نحو السلطة.
ونلاحظ، كذلك، تاريخيا بأن أغلب العوامل والأسباب التي كانت تقف وراء الإصلاحات التعليمية للمدرسة المغربية كانت تأتي من خارج المدرسة (استعمارية، سياسية، اقتصادية...)، أي أن هذه الإصلاحات التي تحدد وظيفة وبنية المدرسة لا تأتي حسب ضرورات بيداغوجية وعلمية داخلية.
وأخيرا، نريد نثير سؤالا يمكن اعتباره كمؤطر لإصلاح مدرسي حقيقي، وهو:
ألا يمكن إبعاد المدرسة عن الصراعات الإيديو-سياسية وجعلها، فقط، مؤسسة للمعرفة العلمية والتربية عليها، مؤسسة وظيفتها الأساسية إشاعة وتكريس القيم العلمية والمعارف الموضوعية حول الذات والمجتمع والعالم (أي إبعاد المعرفة الذاتية المتحيزة والتبريرية الضيقة) وذلك لصالح المجمع ككل واحد، دون تحيز نخبوي أو طبقي أو إثني...؟ وذلك بالعمل على تكريس الاستقلالية البيداغوجية العلمية للمدرسة، بعيدا عن كل الأشكال الإيديولوجية الإستلابية، حيث إن العلم موضوعي لأنه حيادي وبعيد عن العاطفة، بينما تبقى الإيديولوجيا لتحزبها وطابعها الطبقي ذاتية ومشوه للعلم الحقيقي حول الواقع.
ونفترض إن حققت المدرسة استقلاليتها العلمية (وطابعها الديمقراطي) ستكون من أهم الرافعات الأساسية لتحقيق الوحدة المجتمعية (والإنسانية)، التي تقطع مع كل أشكال الصراع التقليدية ذات الإيديولوجيات اللاإنسانية واللاديمقراطية واللاعلمية (واللامواطناتية في غالب الأحيان)، ذلك لأن التراث العلمي المشترك يؤكد على الاتجاه نحو نبذ الخلافات الموروثة... وإن كان لابد للمدرسة أن تلعب دورا إيديولوجيا (وقيميا)، فيجب أن تكون هذه الإيديولوجيا عامة وليست خاصة، حسب تحديد ألتو سر الذي يقسم الإيديولوجيا إلى إيديولوجيا عامة وثانية خاصة، ويرى أن لها دورين في المجتمع:
- الدور الأول، والذي تقوم به الإيديولوجياالعامة، وهو تحقيق وضمان تماسك المجتمع...
- أما الدور الثاني فهو خاص بالإيديولوجيا ضمن إطار المجتمع الطبقي(الإيديولوجيا الخاصة)... وهو التعبير عن الانقسام الطبقي والعمل على استمرار الطبقة السائدة... وبالتالي استمرار قدرية وعبثية الصراع المجتمعي.
إن الدور الوظيفي و الاستراتيجي الذي نريده للمدرسة، هو أن تصبح سلطة حقيقية(بالمعنى الإيجابي) تؤسس لثقافة مواطنة علمية وإنسية موحدة، لتجاوز مختلف الأشكال الصراعية اللاعلمية واللاديمقراطية واللامواطناتية واللاإنسانية التي تخترق مختلف السلط المجتمعية، وذلك من أجل توازن ومساواة مجتمعيتين حقيقيتين، ومن أجل نمط حياتي يستحق أن يعاش بمتعة وجودية بعيدة عن أنطولوجيا الصراع الوحشي، الذي يعيد إحياء "ثقافة الغاب" الماقبل-تاريخية.
التسميات
المدرسة والسلطة