تاريخيا، "إذا كانت المدرسة الرأسمالية هي التي نقلت المجتمع الغربي من وضعه الفيودالي إلى الرأسمالي، فإن المدرسة الاستعمارية هي التي سيسند لها نقل المجتمعات الماقبل-رأسمالية غير الأوربية إلى مجتمعات رأسمالية تابعة".
ولقد كانت من نتائج السياسة الاستعمارية التعليمية في المغرب خلق برولتارية مثقفة صالحة للإنتاج ألفلاحي والصناعي، وذلك بهدف تراكم الإنتاج الرأسمالي، وبالمقابل خلق طبقة أرستقراطية تشارك في السلطة وتعلن الولاء للأجنبي لمواجهة كل مقاومة محتملة.
وعلى ما يبدو فإن التاريخ، في بعض الأحيان، لا يعيد نفسه فقط،بل يعيد نفسه بأشكال جديدة وبأقنعة مختلفة!
وها نحن أمام هيمنة النظام العالمي ذي القطب الواحد (رأسمالي- ليبرالي)، حيث وأمام الأشكال الإمبريالية التقليدية والجديدة، لم يعد خفيا واقع التبعية الاقتصادية والبنيوية لدول ما يسمى بالعالم الثالث للمركز الغربي المهيمن، وذلك حسب ثنائية القوة والاستقطاب السياسي، والمغرب يعلن في عدة مناسبات رسمية تبنيه للإ ختيارات الرأسمالية- الليبرالية.
والملاحظ في السنوات القليلة الماضية، تكاثف التصاعد الاستراتيجي لهيمنة الاقتصادي على السياسي بشكل مباشر، من خلال "لوبي اقتصادي" المكون أساسا من رأسماليين- باترونا- (مغاربة وأجانب) والمدعم بشبكة التقنوقراط. هذا اللوبي/ التيار يحاول باستمرار إقناع الجميع بان الحل الحسم لمشاكل المغرب (البطالة، الفقر، التخلف...) يكمن في الحل الاقتصادي وحده!.
وهذا إلى حد ما صحيح، ولكن بعد أن نقر ببعض الأسباب المسؤولة عن الأزمة العامة، كالرأسمالية المتوحشة، واقتصاد الريع، وتفاحش الفوارق الطبقية، وغياب ديمقراطية اقتصادية... وبتقديم الحل الاقتصادي كحل سحري تجد السلطة (اللوبي) التقنو- اقتصادية تبريرا دوغمائيا للاستفادة أكتر من التسهيلات والامتيازات الضرورية لتحقيق "أرباح أكثر بأقل الخسائر" (خوصصة القطاع العام والمربح أساسا، إلغاء أو تخفيض الضرائب، شراء مؤسسات بدراهم رمزية، السلم الاجتماعي، ليونة قانون الشغل...).
ومن بين الأهداف الاستراتيجية للسلطة التقنو- اقتصادية خوصصة القطاعات الاقتصادية العمومية، بل وحتى الاجتماعي بما فيها المدرسة، نظرا لما تشكله من سوق مغرية حيث تتوفر على عدد كبير من "الزبناء" (تناسل التعليم ألخصوصي وتشجيعه، ضرب مجانية التعليم العمومي...).
وهكذا نجد أنفسنا أمام واقع "ديكتاتورية الرأسمال" الذي ينتظم كقوة تشكل سلطة حقيقية، من أجل التحكم في المجتمع وجعله"مقاولة خاصة" ومشروع استثمار منتج ومربح، لا فرق فيه بين التجاري والاجتماعي والإنساني(الخدمة العمومية)...!
ونجد السلطة الاقتصادية للرأسمال مدعمة أكثر من طرف التقنوقراط (وقد نجد تقنوقراطيا هو نفسه مستثمرا اقتصاديا)، حيث إن "مجموعة التقنوقراطيين... تدعم بشكل أفضل المسار الاقتصادي أكثر من البيروقراطية السياسية التقليدية، وهي تظهر في البداية على صعيد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية (والإدارية)، وهذه المجموعة التي تبدو بفعل وظائفها الملك الحقيقي لآلو الإنتاج... هي طبقة اجتماعية حقيقية، وهي نوع جديد من البيروقراطية في طريق التكوين".
وربما هذا ما يفسر لنا الهيمنة المتصاعدة (والمتكررة في بعض الظروف السياسية) للتقنوقراطي على مواقع ووظائف السياسي، مما يجعلنا أمام سلطة التقنو-اقتصادي ذات المرجعية والأهداف الرأسمالية أساسا.
هذه السلطة نجدها حاضرو كذلك، وبقوة، في المنظومة المدرسية/ التعليمية (خصوصا في الميثاق)، إذ يبدو أن"إصلاح التعليم يعتمد بشكل واضح على المقاربة التقنية، وعلى نموذج المصلح التقنوقراطي، الذي يعتقد بان إصلاح التعليم رهين بحلول تقنية...[و] يتعلق الأمر في إرساء نمط جديد من العقلنة والواقعية كذلك، أساسها النزعة السلوكية والنزعة الاقتصادية.
إن هذه السلطة التقنو-اقتصادوية تحاول أن تجعل المدرسة"مقاولة وسيطة" لخدمة مشروعها المجتمعي. وربما خدمة المجتمع بشكل ما!؟ وذلك بالانتقال بالمدرسة من النظام "التقليدي" الذي يقوم على المجانية ومحاربة الأمية والتراثية وتزويد المجتمع، فقط، بالأطر الدينية والإدارية... إلى "مدرسة معاصرة" تقوم على الأداء و"الحداثة" لخدمة الرأسمال أساسا، أي اعتماد نموذج "المدرسة الرأسمالية" التي تهدف إلى أن "توفر للنظام الرأسمالي القوى العاملة المتخصصة والمؤهلة والمنوعة... لكي تكون قادرة على القيام بوظيفتها في المجتمع الرأسمالي بنجاح، وذلك حسب متطلبات تقسيم العمل التقني-الاجتماعي في كافة مراكزه ووظائفه[و] إن العمال المهرة ومتوسطي المهارة والفنيين والخبراء هي متطلبات العمل التربوي...".
ونورد هنا بعض المقتطفات من الميثاق الوطني للتربية والتكوين التي قد تعبر عن حضور السلطة التقنو-اقتصادية في المنظومة التعليمية/ المدرسية وتنسجم مع مشروعها المجتمعي، ومنها تزويد المجتمع بالكفايات من المؤهلين والعاملين الصالحين... كما ينتظر المجتمع من النظام التربوي بأن يزوده بصفوة من العلماء وأطر التدبير، ذات المقدرة على ريادة نهضة البلاد عبر مدا رج التقدم العلمي والتقني والاقتصادي والثقافي...
وحسب الدعامة الثالثة من الميثاق التي تهدف إلى: السعي إلى تلاؤم أكبر بين النظام التربوي والمحيط الاقتصادي، نجد الجزم بأنه تتسم كل السيرورات التربوية، ومن ثم كل المؤسسات التربوية والتكوين، إلى جانب بعدها المدرسي والأكاديمي أو النظري، بجانب عملي معزز.
وسيطبق هذا المبدأ وفق منهج تدرجي تتحدد سبله كالتالي:
1- تدعيم الأشغال اليدوية والأنشطة التطبيقية في جميع مستويات التعليم الأولي والابتدائي والإعدادي.
2- إقامة تعاون يرتكز على اقتسام المسؤولية وممارستها المنسقة بين بنيات التعليم العام(بما فيه الجامعي) والتعليم التقني والتكوين المهني...
3- تشجيع التعاون على أوسع نطاق بين المؤسسات التعليمية والتكوينية والمقاولات...
هذا وغيره يجعلنا نخرج بانطباع مفاده أن جل الأهداف التعليمية للمدرسة الجديدة تكاد تختزل في البعد/الهاجس الاقتصادي أساسا، هذا الاقتصادي الذي يوظف في خدمة سلطة الرأسمال، الشيء الذي ينسجم مع التوجهات الأيديولوجية للنيو- رأسمالية، التي تريد أن تختزل الكائن الإنساني إلى" حيوان اقتصادي"فقط، حيوان منتج(الغرب)، وحيوان مستهلك/عامل(الجنوب)!
نعم، أمام واقع البطالة والتخلف والفقر... نحن في أمس الحاجة إلى التقنو- اقتصادي، ولكن نحن في حاجة حقيقية إلى نهضة اقتصادية وطنية، وذلك بتملك اقتصاد وطني (أقول وطني ومواطن) عصري قوي ومنتج، وليس إلى اقتصاد استهلاكي تبعي، أو إلى تربية اقتصادية تنتج أياد عاملة، فقط، رخيصة وضعيفة التأهيل والتكوين، وذلك من أجل إنتاج الخيرات والثروات والأدمغة الاقتصادية العالية التكوين والمبدعة إنتاجيا لخدمة تقدم ورفاهية بلدها أولا، وليس لخدمة الرأسمال الأجنبي، الذي يعمل على مراكمة الرأسمال وتمركزه في الغرب الغني (وخصوصا عبر الشركات العابرة للقارات أو الشركات الفروع)، وبالتالي تكريس سلطة القوة للغرب وسلطة التبعية له.
ومن بين الحقائق التاريخية التي يجب التذكير بها هنا، وهي أن نهضة وتقدم الغرب لم يصنعا فقط برؤوس الأموال، بل أيضا برؤوس الأفكار (عصر النهضة..)، أي بالإنسان كمحور وغاية ، وعليه نجد أنفسنا أمام بعض الأسئلة:
- هل يجب أن نجعل مدرستنا، فقط، " مصنعا تربويا "تنتج الأيادي العاملة، دون أن نتساءل حول سلبيات وخطورة هذا التوجه الأحادي، الذي سيجعل المتعلم / المواطن مجرد حيوان اقتصادي، وتهميش وتخريب الأبعاد الإنسانية الأخرى في الشخصية الإنسانية، والتي لها علاقة حيوية بالتوازن و الدينامية التقدمية النمائية لكل فرد من الفرد والمجتمع؟
- ألسنا في حاجة، كمجتمع متخلف وجاهل (والعبرة بالأغلبية) بالإضافة إلى العلوم الاقتصادية والتقنية، إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية والطبيعية.... والنقدية أساسا ؟ ألا نعيش إشكالية التخلف و النهضة على كل المستويات المجتمعية؟
إن النخب و السلط المتحكمة، هنا والآن (وهناك أيضا) في هندسة حاضر ومستقبل النظام التعليمي للمدرسة المغربية، عليها أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية (ورغم الكثير من الإيجابيات التي حققت والتي يجب الإقرار بها بكل موضوعية)، وكذلك باقي النخب والأفراد المتنورين والمواطناتيين، الموجودين خارج لعبة السلطة.
ليست هناك تعليقات