الغيب والشهادة .. ما لا يدرك بالحوّاس وعالم المحسوسات الذي تدرك بالحوّاس

  كما أن في الإنسان جانبين هما: "جانب الحيوانية" وما فيه من حوّاس وأعضاء، و"جانب العقل" وما ينتج عنه من فهم وعلم ومعرفة، فإن الموجودات كلها تنقسم أيضا الى قسمين هما:
1- "عالم الغيب"، وهو: ما لا يدرك بالحوّاس، ويعرف هذا القسم بـ "عالم ما وراء المادة".
2- و"عالم الشهادة" أي: عالم المحسوسات الذي تدرك بالحوّاس، ولا يلزم لإدراكها "عقل".
  ولكي يتمكّن الإنسان من التعرّف على هذين العالمين، والتصديق بهما، فقد خلقه الله تعالى جامعا للحوّاس وللعقل معا، ليدرك بحوّاسه المحسوسات، ويصدّق بعقله بالغيب ويؤمن به.
  وقد أشار القرآن العظيم الى هذه المعادلة بوضوح، في قوله عز وجل:{ ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين* ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون}.
  فبعد أن ذكر الله تعالى علمه المطلق الشامل بالغيب والشهادة، بيّن خلق الإنسان من أوّل أمر تكوينه، حتى نفخ الروح فيه، وهذا هو "جانب الحيوانية" في الإنسان، ثم عقّب بالإشارة الى الجانب الآخر، فذكر أهم الحوّاس المساعدة للعقل وهما: السمع والبصر، لأن العقل يفكّر بما يسمع وبما يرى، فيقدّر ويحكم، وهو "الفؤاد" أي: "القلب" هو مقرّ الوعي، ومستقرّ الإيمان أو الكفر..
  إن العقل " جهاز".. يعمل في المحسوسات عن طريق الحوّاس، التي تزوّده بالمعلومات اللازمة للحكم، ووجوده في إدراك المحسوسات عينها، ليس لازما، فإن غير العقلاء من البشر، وكذلك البهائم، تتعرّف على المحسوسات، فتأكل ما ينفعها، وتترك ما يضرّها، وتبتعد عما يؤذيها، من دون حاجة الى عقل تميّز به تلك الأشياء.
  نعم: إن "لعقل" يعمل في المحسوسات، أي: في المادة باعتبارها من آيات الله تعالى، لاستخلاص البراهين القاطعة على وجود الخالق ووحدانيته، والتصديق بما جاء على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام من الوحي، ومعلوم أن الإنسان مكلّف ومأمور بأعمال فكره في الموجودات، لمعرفة الموجد الخالق عز وجل معرفة صحيحة، والآيات في كتاب الله تعالى في هذا المعنى كثيرة جدا، كقوله عز وجل:{ إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}، وقوله جلّ وعلا:{ وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين إثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون* وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، ونفضّل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
  أما "عالم الغيب" فلا عمل للحوّاس منه على الإطلاق، لأن الحوّاس غير صالحة لإدراك المحسوس، ومن طلب معرفة شيء من الغيب بحوّاسه، فهو جاهل مغفّل، مثله كمثل من يحاول إمساك الهواء أو النور بيده، والمؤسف حقا وجود هذه النوعية في المجتمع، فأحدهم لا يؤمن بالله تعالى لأنه لم يره.. وآخر ينكر الآخرة لأنه لم ير أحدا رجع بعد موته فأخبر بها.. وهكذا..
  ولو سألهم سائل: أين عقولكم يا هؤلاء؟؟.. لسكتوا.. وبهتوا.. ولكنّنا نحن نعرف: أين هي عقولهم؟.. إنها في شهوات بطونهم وفروجهم..، فأحدهم قزّم عقله ومسخه، وجعله في بطنه وفرجه.. فلذلك هو لا يعقل.. ولا يفقه.. ولا يعلم.. ولا يتذكّر.. ولا يتفكّر.. بل كل همّه: "بطنه".. أكلا وشرابا.. و"فرجه" فحشاء وبغاء.. فهل مثل هذا.. أهل لأن يعرف الله؟..
  إنّ الغيب كله محجوب عن حوّاس الخلق، ولا يعلم أحد من الخلق شيئا من "الغيب"، إلا بإعلام الله عز وجل وإخباره، وهذا الإعلام لا يكون إلا للرسل عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى:{ عالم الغبل فلا يظهر على غيبه أحد* إلا من ارتضى من رسول}. ودور "العقل" في هذا المجال هو: التفكير.. ثم: الحكم الصحيح.. أي: الإيمان والتصديق، مثل: إيماننا بالله تعالى، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، بكل ما فيه من: بعث.. وحشر.. وحساب... وجنّة.. ونار.. وغير ذلك، والقدر خيره وشرّه، فقد آمنّا بذلك وأمثاله، بعقولنا التي وهبنا الله إياها، تصديقا للخبر الصادق الذي جاءنا، على لسان رسولنا الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال