يتفق أدونيس مع زملائه في أن الحداثة قضية جوهرية ويربطها بالعقلية مثل يوسف الخال فيقول: (ليست الحداثة أن يكتب (الشاعر) قصيدة ذات شكل مستحدث، شكل لم يعرفه الماضي، بل الحداثة موقف وعقلية.
إنها طريقة نظر وطريقة فهم، وهي فوق ذلك وقبله ممارسة ومعاناة).
الحداثة عنده قيمة داخلية مرتبطة بالتجربة الإبداعية ومعاناة الشاعر من أجل الكشف عن أسرار الوجود، وليست مجرد شكل خارجي حديث.
وهذا ما يؤكده في مرحلة أخرى في (البيانات) إذ يذهب إلى أن الحداثة لا تكمن في كتابة الشعر وزناً أو نثراً وإنما تكمن في الأفق الكشفي المعرفي الذي تؤسس لـه هذه الكتابة داخل التاريخ العربي من جهة، وخارجه في تاريخ الإنسان المعاصر من جهة أخرى.
فالحداثة مشكلة معرفية بالدرجة الأولى، معرفة الشاعر بذاته وبمحيطه وبالعالم من حوله.
والكتابة بهذا تأسيس لمعرفة جديدة عن طريق البحث والتساؤل عن حقائق الأشياء.
بل إن الحداثة (تضع هذا التاريخ موضع تساؤل مستمر، وتضع الكتابة نفسها موضع تساؤل مستمر وذلك ضمن حركة دائمة من استكشاف طاقة اللغة واستقصاء التجربة).
وأدونيس هنا لا يفصل اللغة عن التجربة، الشكل عن المضمون في حديثه عن الكتابة، ذلك أن الحداثة تساؤل شامل لا يقتصر على جانب دون آخر.
إنها تساؤل من أجل التغيير والتجاوز، بحث من أجل التحرر والانطلاق. إنها تفكيك وتخط للنظام المعرفي السائد في اتجاه أفق أوسع للإنسان في هذا العالم.
وهي لا تتجاوز مجالاً دون آخر لأنها نظرة شمولية تمس الفن والحياة معاً.
إنها مشروع حضاري شامل يقوم على الاختلاف والابتكار ولا يقوم على قواعد يمكن تقليدها.
فهي نقيض للتقليد ونقد مستمر للماضي والحاضر ومراجعة دائبة لكل ما تم التوصل إليه من أجل تجاوزه إلى غيره.
وانطلاقاً من هذا فإن الحداثة الشعرية لا تتحقق إلا إذا تجاوز الشاعر الحديث (الموقف الإيديولوجي الفني القديم ومتضمناته جميعاً: مفهوم الإبداع والمعايير النقدية المنبثقة عنهما).
وبهذا تكون الحداثة الشعرية مفهوماً جديداً للفن يقوم على أساس معرفي مغاير للمنطلقات التقليدية، ويكون الشعر الحديث مختلفاً عن الشعر القديم نتيجة لذلك.
على أن أدونيس قد غير موقفه هذا في (البيانات) عندما ذهب إلى أن الحداثة ارتباط بالتراث وقرر أن رامبو وبودلير لم يخلقا الحديث إلا بفضل ارتباطهما بالقديم.
وهذا يعني أن مفهوم التجاوز عند أدونيس مختلف، فهو نفي للتراث حيناً واتصال به حيناً آخر.
والحداثة تبعاً لهذا تكون انسلاخاً عن الموروث مرة وارتباطاً به مرة أخرى.
وهذا موقف متذبذب من الحداثة والتراث كليهما.
ويظهر هذا التذبذب على مستوى الإبداع الشعري ذاته، فهو مرة يقطع صلة الشاعر بالتراث فيقول في شخصية مهيار الدمشقي من ديوانه (أغاني مهيار الدمشقي):
(إنه الريح لا ترجع القهقرى والماء لا يعود إلى منبعه.
يخلق نوعه بدءاً من نفسه، لا أسلاف لـه، وفي خطواته جذوره. يمشي في الهاوية وله قامة الريح).
وهو مرة أخرى يربط الشعر بالتراث فيقول من ديوانه (كتاب الحصار):
متدثراً بدمي، أجيء يقودني
حلم ويهديني بريق،
هيأت بيتي لابن رشد
وأبي نواس، والرضي
وكتبت للطائي أن يأتي وقلت لذي القروح: أبو العلاء أتى،
واحمد وابن خلدون،
سنعلن آية الأحشاء، وسوسة السديم الأولي
ونفكك اللغة الدفينة...
وهذا يعني أن أدونيس يناقض نفسه في علاقة التراث بالحداثة، كما يعني هذا المقطع الشعري أن أدونيس قد عدل من موقفه المتطرف ضد التراث في (زمن الشعر).
التسميات
دراسات شعرية