شرح وتحليل المقامة الفرضية للحريري

أخبرَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: أرِقْتُ ذاتَ ليلَةٍ حالِكَةِ الجلْبابِ. هامِيَةِ الرَّبابِ. ولا أرَقَ صَبٍّ طُرِدَ عنِ الباب. ومُنيَ بصَدّ الأحْبابِ. فلمْ تزَلِ الأفكارُ يهِجْنَ همّي. ويُجِلنَ في الوَساوِسِ وهْمي. حتى تمنّيْتُ. لمَضَضِ ما عانَيْتُ. أنْ أُرْزَقَ سَميراً منَ الفُضَلاء. ليُقصّرَ طولَ ليلَتي اللّيْلاء. فما انقَضَتْ مُنيَتي. ولا أُغمِضَتْ مُقلَتي. حتى قرَعَ البابَ قارِعٌ. لهُ صوتٌ خاشِعٌ.

فقلتُ في نفسي: لعلّ غَرْسَ التّمني قد أثمَرَ. وليْلَ الحظّ قد أقْمَرَ. فنهَضْتُ إليْهِ عَجْلانَ. وقلتُ: مَنِ الطّارِقُ الآن؟ فقال: غَريبٌ أجَنّهُ الليلُ. وغشِيَهُ السّيْلُ. ويبْتَغي الإيواءَ لا غَير. وإذا أسْحَرَ قدّمَ السّيرَ. قال: فلمّا دَلّ شُعاعُهُ على شمْسِهِ. ونَمّ عُنوانُهُ بسِرّ طِرْسِهِ. علِمْتُ أنّ مُسامرَتَهُ غُنْمٌ. ومُساهَرَتَهُ نُعْمٌ. ففتَحْتُ البابَ بابتِسامٍ. وقلتُ: ادخُلوها بسَلام.

فدخَلَ شخصٌ قد حنى الدّهرُ صَعْدَتَهُ. وبلّلَ القَطْرُ بُردَتَهُ. فحَيّا بلِسانٍ عضْبٍ. وبَيانٍ عذْبٍ. ثمّ شكرَ على تلبِيَةِ صوتِه. واعتَذَرَ منَ الطُّروقِ في غيرِ وقتِه. فدانَيْتُهُ بالمِصْباحِ المتّقِدِ. وتأمّلْتُهُ تأمّلَ المُنتَقِدِ. فألفَيْتُهُ شيخَنا أبا زيْدٍ بِلا رَيبٍ. ولا رَجْمِ غيْبٍ. فأحْلَلْتُه محلّ مَنْ أظفَرَني بقُصْوى الطّلَبِ. ونقَلَني منْ وقْذِ الُكرَبِ. إلى رَوْحِ الطّرَبِ. ثمّ أخذَ يشْكو الأينَ. وأخذْتُ في كيفَ وأينَ؟

فقال: أبلِعْني ريقي. فقدْ أتعَبَني طَريقي. فظَنَنْتُهُ مُستَبْطِناً للسّغَبِ. مُتكاسِلاً لهَذا السّبَبِ. فأحضَرْتُهُ ما يُحْضَرُ للضّيفِ المُفاجي. في اللّيلِ الدّاجي. فانقَبَضَ انقِباضَ المُحتَشِمِ. وأعْرَضَ إعْراضَ البَشِمِ. فسُؤتُ ظَنّاً بامتِناعِهِ. وأحْفَظَني حؤولُ طِباعِهِ. حتى كِدْتُ أُغْلِظُ لهُ في الكلامِ. وألسَعُهُ بحُمَةِ المَلامِ. فتبيّنَ منْ لمَحاتِ ناظِري. ما خامَرَ خاطِري.

فقال: يا ضَعيفَ الثّقةِ. بأهلِ المِقَةِ. عدِّ عمّا أخطَرْتَهُ بالَكَ. واسْتَمِعْ إليّ لا أبا لكَ! فقلْتُ: هاتِ. يا أخا التُرّهاتِ! فقال: اعْلَمْ أني بِتُّ البارِحَةَ حَليفَ إفْلاسٍ. ونَجيَّ وسْواسٍ. فلمّا قضى الليلُ نحْبَهُ. وغوّرَ الصُبحُ شُهْبَهُ. غدَوْتُ وقْتَ الإشْراقِ. إلى بعضِ الأسْواقِ. متصدّياً لصَيْدٍ يسْنَحُ. أو حُرٍّ يسمَحُ. فلحَظْتُ بها تمْراً قد حَسُنَ تصْفيفُهُ. وأحسَنَ إليْهِ مَصيفُهُ.

فجمعَ على التّحقيقِ. صَفاءَ الرّحيقِ. وقُنوءَ الَعقيقِ. وقُبالتَهُ لِبَأٌ قد برزَ كالإبْريزِ الأصفَرِ. وانجلى في اللونِ المزَعْفَرِ. فهوَ يُثْني على طاهِيهِ. بلِسانِ تناهِيهِ. ويصوِّبُ رأيَ مُشتَريهِ. ولوْ نقَدَ حبّةَ القلْبِ فيهِ. فأسرَتْني الشّهوةُ بأشْطانِها. وأسلَمَتْني العَيْمَةُ إلى سُلْطانِها. فبَقيتُ أحْيَرَ من ضَبّ. وأذْهَلَ من صَبّ. لا وُجْدَ يوصِلُني إلى نيْلِ المُرادِ. ولذّةِ الازْدِرادِ. ولا قدَمَ تُطاوعُني على الذّهابِ. مع حُرقَةِ الالتِهابِ. لكِنْ حَداني القرَمُ وسوْرَتُهُ. والسّغَبُ وفَورَتُهُ. على أنْ أنتَجِعَ كُلَّ أرضٍ. وأقتَنِعَ منَ الوِرْدِ ببَرْضٍ.

فلمْ أزَلْ سَحابةَ ذلِكَ النّهارِ. أُدْلي دَلْوي إلى الأنْهارِ. وهيَ لا ترْجِعُ ببِلّةٍ. ولا تجْلُبُ نقْعَ غُلّةٍ. إلى أنْ صغَتِ الشمسُ للغُروبِ. وضعُفَتِ النّفسُ منَ اللّغوبِ. فرُحْتُ بكبِدٍ حرّى. وانثَنَيْتُ أقدّمُ رِجْلاً وأؤخّرُ أخرى. وبينَما أنا أسعى وأقعُدُ. وأهُبُّ وأرْكُدُ. إذ قابَلَني شيخٌ يتأوّهُ أهّةَ الثّكْلانِ. وعيناهُ تهْمُلانِ. فما شغَلني ما أنا فيهِ منْ داء الذّيبِ. والخَوى المُذيبِ. عنْ تَعاطي مُداخَلَتِهِ. والطّمعِ في مُخاتَلَتِهِ.

فقلتُ لهُ: يا هَذا إنّ لبُكائِكَ سِرّاً. ووَراء تحرُّقِكَ لشَرّاً. فأطْلِعْني على بُرَحائِكَ. واتّخِذْني منْ نُصَحائِكَ. فإنّكَ ستجِدُ مني طَبّاً آسِياً. أو عوْناً مؤاسياً. فقال: واللهِ ما تأوّهي منْ عيشٍ فاتَ. ولا منْ دهْرٍ افْتاتَ بلْ لانقِراضِ العِلمِ ودُروسهِ. وأفولِ أقمارِهِ وشُموسِهِ. فقلت: وأيّ حادثَةٍ نجمَتْ. وقضيّةٍ استعْجَمتْ. حتى هاجَتْ لكَ الأسَفَ. على فقْدِ منْ سلَفَ؟

فأبْرَزَ رُقعَةً منْ كُمّهِ. وأقسَمَ بأبيهِ وأمّه. لقدْ أنزَلَها بأعْلامِ المدارِسِ. فما امتازوا عنِ الأعْلامِ الدّوارِسِ. واستنْطَقَ لَها أحْبارَ المَحابِرِ. فخرِسوا ولا خرَسَ سُكّانِ المقابِرِ. فقلتُ: أرِنيها. فلعلّي أغْني فيها. فقال: ما أبعَدْتَ في المَرامِ. فرُبّ رمْيَةٍ منْ غيرِ رامٍ. ثمّ ناوَلنيها. فإذا المكْتوبُ فيها:
أيّها العالِمُ الفَقيهُ الـذي فـا
قَ ذُكاءً فما لهُ منْ شَبـيهِ
أفِتْنا في قضيّةٍ حادَ عنْـهـا
كلُّ قاضٍ وحارَ كلُّ فَقـيهِ
رجُلٌ ماتَ عنْ أخٍ مسلِمٍ حُ
رٍ تقيٍّ مـنْ أمّـهِ وأبـيهِ
ولهُ زوْجَةٌ لها أيّها الحِـبْ
رُ أخٌ خالِصٌ بلا تَـمـويهِ
فحوَتْ فرْضَها وحازَ أخوها
ما تبَقّى بالإرثِ دونَ أخيهِ
فاشْفِنا بالجَوابِ عمّا سألْنـا
فهْوَ نصٌّ لا خُلْفَ يوجَدُ فيهِ

فلمّا قرأتُ شِعْرَها. ولمحْتُ سرّها. قلتُ له: على الخَبيرِ بها سقَطْتَ. وعندَ ابنِ بجْدَتِها حططْتَ. إلا أني مُضطرِمُ الأحْشاء. مُضطَرٌّ إلى العَشاء. فأكْرِمْ مثْوايَ. ثم استَمِعْ فتْوايَ. فقال: لقد أنصَفْتَ في الاشتِراطِ. وتجافَيْتَ عنِ الاشتِطاطِ. فصِرْ معي. إلى مربَعي. لتَظْفَرَ بما تبْتَغي. وتنقَلِبَ كما ينْبَغي. قال: فصاحَبتُهُ إلى ذَراهُ. كما حكَمَ اللهُ. فأدخَلَني بيتاً أحرجَ من التّابوتِ. وأوْهَنَ منْ بيتِ العنكَبوتِ.

إلا أنّهُ جبَرَ ضيقَ ربْعِهِ. بتوْسِعَةِ ذرْعِهِ. فحكّمَني في القِرى. ومطايِبِ ما يُشتَرى. فقلتُ: أريدُ أزْهى راكبٍ على أشْهى مرْكوبٍ. وأنْفَعَ صاحِبٍ مع أضرّ مصْحوبٍ. فأفْكَرَ ساعةً طويلةً. ثمّ قال: لعلّك تعْني بنْتَ نُخَيلةٍ. معَ لِباء سُخَيلةٍ. فقلتُ: إياهُما عنَيْتُ. ولأجْلِهِما تعنّيْتُ. فنهَضَ نشيطاً. ثمّ ربَضَ مُستَشيطاً. وقال: اعْلَمْ أصلحَكَ اللهُ أنّ الصّدْقَ نَباهةٌ. والكذِبَ عاهَةٌ.

فلا يحمِلنّكَ الجوعُ الذي هوَ شِعارُ الأنبِياء. وحِليَةُ الأولِياء. على أنْ تلْحَقَ بمَنْ مانَ. وتتخلّقَ بالخُلُقِ الذي يُجانِبُ الإيمانَ. فقدْ تجوعُ الحُرّةُ ولا تأكُلُ بثَدْيَيها. وتأبى الدنيّةَ ولوِ اضطُرّتْ إلَيْها. ثمّ إنّي لستُ لك بزَبونٍ. ولا أُغضي على صَفقَةِ مغْبونٍ. وها أنا قد أنذَرْتُكَ قبلَ أنْ ينهَتِكَ السِّتْرُ. وينعَقِدَ فيما بينَنا الوِتْرُ. فلا تُلْغِ تدبُّرَ الإنْذارِ. وحَذارِ منَ المُكاذبَةِ حَذارِ. فقلْتُ لهُ: والذي حرّمَ أكْلَ الرِّبا. وأحَلّ أكْلَ اللِّبا. ما فُهْتُ بزورٍ. ولا دلّيْتُكَ بغُرورٍ. وستخْبُرُ حَقيقَةَ الأمْرِ. وتحْمَدُ بذْلَ اللّبإ والتّمْرِ.

فهشّ هَشاشَةَ المصْدوقِ. وانطلَقَ مُغِذّاً إلى السّوقِ. فما كان بأسرَعَ منْ أنْ أقبَلَ بهِما يدْلَحُ. ووجْهُهُ منَ التّعبِ يكلَحُ. فوضَعَهُما لديّ. وضْعَ المُمْتَنّ عليّ. وقال: اضرِبْ الجيْشَ بالجيْشِ. تحْظَ بلَذّةِ العيشِ. فحسَرْتُ عن ساعِدِ النّهِمِ. وحملْتُ حملَةَ الفيلِ المُلتَهِمِ. وهو يلْحَظُني كما يلحَظُ الحَنِقُ. ويوَدّ منَ الغيْظِ لو أختَنِقُ. حتى إذا هلقَمْتُ النّوعينِ. وغادرْتُهُما أثَراً بعْدَ عينٍ. أقرَدْتُ حيْرَةً في إظْلالِ البَياتِ. وفِكرةً في جَوابِ الأبْياتِ.

فما لبِثَ أن قام. وأحضَرَ الدّواةَ والأقْلامَ. وقال: قد ملأتَ الجرابَ. فأمْلِ الجَوابَ. وإلا فتهيّأ إنْ نكَلْتَ. لاغْتِرامِ ما أكلْتَ! فقلْتُ له: ما عِندي إلا التّحقيقُ. فاكتُبِ الجوابَ وباللهِ التوْفيقُ:
قُلْ لمَنْ يُلغِزُ المســــائِلَ إنـي
كاشِفٌ سِرّها الذي تُخْفــــيهِ
إنّ ذا الميّتَ الـــذي قدّمَ الشّرْ
عُ أخا عِرسِــــهِ على ابنِ أبيهِ
رجُـــلٌ زوّجَ ابنَهُ عنْ رِضاهُ
بحَماةٍ لهُ ولا غَـرْوَ فـــــيهِ
ثمّ ماتَ ابنُهُ وقدْ عـلِـقَـتْ مـنْ
هُ فـجـاءتْ بـابـنٍ يسُـرّ ذويهِ
فهُو ابنُ ابـنِـهِ بـغـيرِ مِـراءٍ
وأخو عِـرسِـهِ بـلا تَـمْـويهِ
وابنُ الابنِ الصّريحُ أدْنى إلى الـجَـ
دّ وأوْلـى بـإرْثِـهِ مـنْ أخـيهِ
فلِذا حينَ مـاتَ أوجِـبَ لـلـزّوْ
جَةِ ثُمْنُ التُـراثِ تـسـتَـوفـيهِ
وحوى ابنُ ابنِهِ الذي هوَ في الأصْـ
لِ أخوها مـنْ أمّـهـا بـاقِـيهِ
وتخلّى الأخُ الشّـقـيقُ مـنَ الإرْ
ثِ وقُلْنا يكـفـيكَ أن تـبـكـيهِ
هاكَ مني الفُتْيا التي يحْـتَـذيهـا
كلُّ قاضٍ يقضي وكـلُّ فَـقـيهِ

قال: فلمّا أثبَتّ الجوابَ. واستَثبتُّ منهُ الصّوابَ. قال لي: أهلَكَ والليلَ. فشمِّرِ الذّيْلَ. وبادرِ السّيْلَ! فقلتُ: إني بِدارِ غُربَةٍ. وفي إيوائي أفضَلُ قُربَةٍ. لا سيّما وقد أغدَفَ جُنْحُ الظّلامِ. وسبّحَ الرّعدُ في الغَمامِ. فقال: اغْرُبْ عافاكَ اللهُ إلى حيثُ شِيتَ. ولا تطمَعْ في أنْ تبيتَ. فقلتُ: ولمَ ذاكَ. معَ خُلوّ ذَراكَ؟ قال: لأني أنعَمْتُ النظَرَ. في التِقامِكَ ما حضَرَ. حتى لمْ تُبْقِ ولمْ تذَرْ.

فرأيتُك لا تنظُرُ في مصلحَتِكَ. ولا تُراعي حِفْظَ صحّتِكَ. ومَنْ أمعَنَ فيما أمعنْتَ. وتبطّنَ ما تبطّنْتَ. لم يكَدْ يخْلُصُ منْ كِظّةٍ مُدنِفَةٍ. أو هيْضَةٍ مُتلِفَةٍ. فدَعْني باللهِ كَفافاً. واخْرُجْ عني ما دُمْتَ مُعافًى. فوَالذي يُحْيي ويُميتُ. م لكَ عِندي مَبيتٌ! فلمّا سمِعْتُ ألِيّتَهُ. وبلَوْتُ بليّتَهُ. خرجْتُ منْ بيِته بالرّغْمِ. وتزوّدِ الغَمِّ. تجودُني السّماءُ. وتخْبِطُ بيَ الظّلْماءُ.

وتَنبَحُني الكِلابُ. وتتقاذَفُ بيَ الأبوابُ. حتى ساقَني إلَيكَ لُطْفُ القضاء. فشُكْراً ليَدِه البَيضاء. فقلتُ لهُ: أحْبِبْ بلِقائِكَ المُتاحِ. إلى قلْبيَ المُرْتاحِ! ثمّ أخذَ يفْتَنّ بحِكاياتِهِ. ويُشْمِطُ مُضحِكاتِهِ بمُبْكِياتِه. إلى أنْ عطَسَ أنْفُ الصّباحِ. وهتَفَ داعي الفَلاحِ. فتأهّبَ لإجابَةِ الدّاعي. ثمّ عطَفَ إلى وَداعي. فعُقْتُه عنِ الانبِعاثِ. وقلتُ: الضّيافَةُ ثلاثٌ! فناشَدَ وحرّجَ. ثمّ أمَّ المَخرَجَ. وأنشدَ إذ عرّجَ:
لا تزُرْ منْ تُحبّ في كلّ شهرٍ
غيرَ يومٍ ولا تـزِدْهُ عـلـيهِ
فاجْتِلاءُ الهِلالِ في الشهْرِ يومٌ
ثمّ لا تنظُرُ الـعُـيونُ إلـيْهِ

قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فودّعتُهُ بقلْبٍ دامي القُرْحِ. وودِدْتُ لوْ أنّ ليلَتي بطيئَةُ الصُبْحِ.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال