الراوي في مقامات الهمذاني.. التمهيد لظهور البطل. المقياس الذي يعرض عليه عمل البطل كي يصار إلى اكتشاف حجم الشذوذ في سلوكه

الراوي في مقامات الهمذاني:

اتخذ كتاب المقامات شخصية الراوي من بيئاتهم، وكانوا أقدر على تصويرها من فترة الصبا إلى الشيخوخة، وهم يصنعون هذا الراوي وهو متلبس بالظروف التي صاحبته في وضعه الاقتصادي ومن كانوا يعاشرهم في بيئته المكانية والزمانية.

التمهيد لظهور البطل:

وقد كانت مهمة الراوي الذي ابتكره "بديع الزمان" لمقاماته وهو "عيسى ابن هشام" تنحصر غالبًا في أن يمهّد لظهور البطل.

ولذا نجده يستهلّ المقامة بالحكاية عن سفره، والسبب الباعث لَه.

ومن هنا فهم بعض الباحثين أن أغلال المقدمات التقليدية في القصائد الجاهلية من وصف الرحلة إلى الممدوح مازالت تحيط بعنق "بديع الزمان الهمذاني".

ولعل هذا الرأي له ما يؤكده في النقد القديم عند ما رأى "ابن الأثير" أن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص.

ولعلّ «المخلص» هنا يساوي «حسن التخلص» في القصيدة الجاهلية، ولكنه تخلص إلى غرض المقامة كالتسول والاستجداء.

بديع الزمان الهمذاني وعيسى بن هشام: اثنان في واحد

ومهما يكن من أمر فقد أسند "بديع الزمان الهمذاني" مقاماته إلى راوية متخيّل يُدعى "عيسى بن هشام" الذي لم يكن في رأي بعض الباحثين إلا اسمًا لشيخ "بديع الزمان الهمذاني" الذي تعلم منه الأخبار حتى لقّب بـ "الأخباري".

ويقبل هذا الرأي باحث آخر، وهو "عبد الفتاح كليطو"، بتحفّظ حيث لم يشر أي صاحب ترجمة إلى سميٍّ لراوي المقامات.

وترى "إحسان الملائكة" أن عيسى بن هشام هو البديع نفسه.

ويؤكده "عباس مصطفى الصالحي" حيث يرى أنه لا يمكن أن نفصل شخصية الراوي عن شخصية الكاتب، لأننا نرى "بديع الزمان الهمذاني" يقحم الراوي في كل مجلس يتردد عليه بطل المقامة، ويقف منه دائمًا موقف اللائم، والمؤنب، والناصح.

الجانب الإيجابي من الحياة:

وشخصية الراوي تمثل الجانب الإيجابي من الحياة وقيمها.

وكان "بديع الزمان الهمذاني" ومن سلك دربه في كتابة المقامة، يجعلون الراوي المقياس الذي يعرض عليه عمل البطل، كي يصار إلى اكتشاف حجم الشذوذ في سلوكه.

وبعبارة أدق فالراوي هو الهمذاني رسميًّا، وصوته صوته.

ويبدو لي أن حقيقة "عيسى بن هشام" لا تهمنا كثيرًا بقدر ما تهمنا وظيفته ودوره، وكيف صوّره "بديع الزمان الهمذاني" في مقاماته حتى أوحى إلى كتّاب المقامات الذين جاءوا بعده أن يقتفوا أثره، ويسيروا على دربه في إيجاد راوية لمقاماتهم.