تطهير الآبار وحكم تغويرها في المذاهب الأربعة: المالكية، الشافعية، الحنابلة، الحنفية

1 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا تنجّس ماء البئر فإنّ التّكثير طريق تطهيره عند تنجّسها إذا زال التّغيّر . ويكون التّكثير بالتّرك حتّى يزيد الماء ويصل حدّ الكثرة ، أو بصبّ ماء طاهر فيه حتّى يصل هذا الحدّ . وأضاف المالكيّة طرقاً أخرى ، إذ يقولون : إذا تغيّر ماء البئر بتفسّخ الحيوان طعماً أو لوناً أو ريحاً يطهر بالنّزح ، أو بزوال أثر النّجاسة بأيّ شيء . بل قال بعضهم : إذا زالت النّجاسة من نفسها طهر . وقالوا في بئر الدّار المنتنة : طهور مائها بنزح ما يذهب نتنه .
2 - ويقصر الشّافعيّة التّطهير على التّكثير فقط إذا كان الماء قليلاً ( دون القلّتين ) ، إمّا بالتّرك حتّى يزيد الماء ، أو بصبّ ماء عليه ليكثر ، ولا يعتبرون النّزح لينبع الماء الطّهور بعده ، لأنّه وإن نزح فقعر البئر يبقى نجساً كما تتنجّس جدران البئر بالنّزح.
وقالوا : فيما إذا وقع في البئر شيء نجس ،  كفأرة تمعّط شعرها ، فإنّ الماء ينزح لا لتطهير الماء ، وإنّما بقصد التّخلّص من الشّعر.
3 - ويفصّل الحنابلة في التّطهير بالتّكثير ، إذا كان الماء المتنجّس قليلاً ، أو كثيراً لا يشقّ نزحه ويخصّون ذلك بما إذا كان تنجّس الماء بغير بول الآدميّ أو عذرته . ويكون التّكثير بإضافة ماء طهور كثير ، حتّى يعود الكلّ طهوراً بزوال التّغيّر . أمّا إذا كان تنجّس الماء ببول الآدميّ أو عذرته فإنّه يجب نزح مائها ، فإن شقّ ذلك فإنّه يطهر بزوال تغيّره ، سواء بنزح ما لا يشقّ نزحه ، أو بإضافة ماء إليه ، أو بطول المكث . على أنّ النّزح إذا زال به التّغيّر وكان الباقي من الماء كثيراً ( قلّتين فأكثر ) يعتبر مطهّراً عند الشّافعيّة.
24 - أمّا الحنفيّة فيقصرون التّطهير على النّزح فقط ، لكلّ ماء البئر ، أو عدد محدّد من الدّلاء على ما سبق . وإذا كان المالكيّة والحنابلة اعتبروا النّزح طريقاً للتّطهير فإنّه غير متعيّن عندهم كما أنّهم لم يحدّدوا مقداراً من الدّلاء وإنّما يتركون ذلك لتقدير النّازح . ومن أجل هذا نجد الحنفيّة هم الّذين فصّلوا الكلام في النّزح ، وهم الّذين تكلّموا على آلة النّزح ، وما يكون عليه حجمها .
4 - فإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت ، وكان نزح ما فيها من الماء طهارةً لها . لأنّ الأصل في البئر أنّه وجد فيها قياسان : أحدهما : أنّها لا تطهر أصلاً ، لعدم الإمكان ، لاختلاط النّجاسة بالأوحال والجدران . الثّاني : لا تنجس ، إذ يسقط حكم النّجاسة ، لتعذّر الاحتراز أو التّطهير . وقد تركوا القياسين الظّاهرين بالخبر والأثر ، وضرب من الفقه الخفيّ وقالوا : إنّ مسائل الآبار مبنيّة على اتّباع الآثار . أمّا الخبر فما روى من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون » وفي رواية « ينزح منها ثلاثون دلواً » . وأمّا الأثر فما روي عن عليّ أنّه قال : ينزح عشرون . وفي رواية ثلاثون وعن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال في دجاجة ماتت في البئر : ينزح منها أربعون دلواً . وعن ابن عبّاس وابن الزّبير أنّهما أمرا بنزح ماء زمزم حين مات فيها زنجيّ . وكان بمحضر من الصّحابة ، ولم ينكر عليهما أحد . وأمّا الفقه الخفيّ فهو أنّ في هذه الأشياء دماً سائلاً وقد تشرّب في أجزائها عند الموت فنجّسها . وقد جاورت هذه الأشياء الماء ، وهو ينجس أو يفسد بمجاورة النّجس ، حتّى قال محمّد بن الحسن : إذا وقع في البئر ذنب فأرة ، ينزح جميع الماء ، لأنّ موضع القطع لا ينفكّ عن بلّة ، فيجاور أجزاء الماء فيفسدها .
5 - وقالوا : لو نزح ماء البئر ، وبقي الدّلو الأخير فإن لم ينفصل عن وجه الماء لا يحكم بطهارة البئر ، وإن انفصل عن وجه الماء ، ونحّي عن رأس البئر ، طهر . وأمّا إذا انفصل عن وجه الماء ، ولم ينحّ عن رأس البئر ، والماء يتقاطر فيه ، لا يطهر عند أبي يوسف . وذكر الحاكم أنّه قول أبي حنيفة أيضاً . وعند محمّد يطهر . وجه قول محمّد أنّ النّجس انفصل من الطّاهر ، فإنّ الدّلو الأخير تعيّن للنّجاسة شرعاً ، بدليل أنّه إذا نحّي عن رأس البئر يبقى الماء طاهراً ، وما يتقاطر فيها من الدّلو سقط اعتبار نجاسته شرعاً دفعاً للحرج . ووجه قولهما أنّه لا يمكن الحكم بالطّهارة إلاّ بعد انفصال النّجس عنها ، وهو ماء الدّلو الأخير ، ولا يتحقّق الانفصال إلاّ بعد تنحية الدّلو عن البئر ، لأنّ ماءه متّصل بماء البئر . واعتبار نجاسة القطرات لا يجوز إلاّ لضرورة ، والضّرورة تندفع بأن يعطى لهذا الدّلو حكم الانفصال بعد انعدام التّقاطر ، بالتّنحية عن رأس البئر .
6 - وإذا وجب نزح جميع الماء من البئر ينبغي أن تسدّ جميع منابع الماء إن أمكن ، ثمّ ينزح ما فيها من الماء النّجس . وإن لم يمكن سدّ منابعه لغلبة الماء روي عن أبي حنيفة أنّه ينزح مائة دلو ، وعن محمّد أنّه ينزح مائتا دلو ، أو ثلثمائة دلو . وعن أبي يوسف روايتان في رواية يحفر بجانبها حفرة مقدار عرض الماء وطوله وعمقه ثمّ ينزح ماؤها ويصبّ في الحفرة حتّى تمتلئ فإذا امتلأت حكم بطهارة البئر ، وفي رواية : يرسل فيها قصبة ، ويجعل لمبلغ الماء علامة ، ثمّ ينزح منها عشر دلاء مثلاً ، ثمّ ينظر كم انتقص ، فينزح بقدر ذلك ، ولكنّ هذا لا يستقيم إلاّ إذا كان دور البئر من أوّل حدّ الماء إلى مقرّ البئر متساوياً ، وإلاّ لا يلزم إذا نقص شبر بنزح عشر دلاء من أعلى الماء أن ينقص شبر بنزح مثله من أسفله . والأوفق ما روي عن أبي نصر أنّه يؤتى برجلين لهما بصر في أمر الماء فينزح بقولهما ، لأنّ ما يعرف بالاجتهاد يرجع فيه لأهل الخبرة .
7 - والمالكيّة كما بيّنّا يرون أنّ النّزح طريق من طرق التّطهير . ولم يحدّدوا قدراً للنّزح ، وقالوا : إنّه يترك مقدار النّزح لظنّ النّازح . قالوا : وينبغي للتّطهير أن ترفع الدّلاء ناقصةً ، لأنّ الخارج من الحيوان عند الموت موادّ دهنيّة ، وشأن الدّهن أن يطفو على وجه الماء ، فإذا امتلأ الدّلو خشي أن يرجع إلى البئر . والحنابلة قالوا : لا يجب غسل جوانب بئر نزحت ، ضيّقةً كانت أو واسعةً ، ولا غسل أرضها ، بخلاف رأسها . وقيل يجب غسل ذلك . وقيل إنّ الرّوايتين في البئر الواسعة . أمّا الضّيّقة فيجب غسلها روايةً واحدةً . وقد بيّنّا أنّ الشّافعيّة لا يرون التّطهير بمجرّد النّزح .
أحدث أقدم

نموذج الاتصال