مفهوم الكفاية في المعاجم والكتب القديمة .. القيام بالأمر والوصول إلى درجة من المبتغى

يشير المعجم العربي([1]) في رصده معاني(الكفاية)، إلى أنه يقال: كفى يكفي كِفاية إذا قام بالأمر، ويقال: استكفيته أمرا فكفانيه، ويقال: كفاك هذا الأمرُ أي حَسْبك.

ويقال: كفاه مؤونته كِفاية وكفاك الشيء: يكفيك واكتفيت به. ومن هنا نلمح أن هذه المعاني تنعقد حول مفهومين:

- الأول: القيام بالأمر ولم تحدد المعاجم مستوى القيام به، إذا ما كانت مرتفعة أو منخفضة، ونسبة الارتفاع والانخفاض.

- الثاني: الوصول إلى درجة من المبتغى سواء أكان المبتغى ماديا أم معنويا.ثم أخذت المعاجم منحى آخر في تحديد معنى الكفاية عندما أشارت إلى أن الكفْوَ النظيرُ وهو لغة في الكفْء، ويجوز أن يريدوا به الكُفُؤ فَيُخَفِّفوا ثم يُسَكِّنوا.

وأشير هنا أيضا إلى أن المعجم ([2]) ذكر تحت مادة(غنى) أن الغناء بمعنى الاستغناء والكفاية، وبهذا يكون مصطلح الغناء مرادفا للكفاية في الإطار المعجمي.

ومن الإشارات الدالة - أيضا - على أن المراد بالكفاية: الغناء، ما ورد في معنى الفعل(كفى) في الحديث: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه"([3]) أي أغنتاه عن قيام الليل.

وقيل إنهما أقل ما يُجْزئ من القراءة في قيام الليل. فـ(كفتاه) بمعنى أغنتاه وجُعِلتا له غناء، ويظهر في قوله"أقل ما يجزئ" مستوى من مستويات الكفاية بأنه "أقل ما يجزئ" مما يشير إلى أن هناك مستويات للكفاية بأنها تكون قليلة أو كثيرة أو أقل أو أكثر... وعليه فالكفاية لها مستويات متفاوتة وبنسب مختلفة من القلة إلى الكثرة ومن المقبول إلى الممتاز.، فهناك من تكون كفاية قليلة وهناك من تكون كفايته كبيرة... وأشير هنا أيضا إلى ورود لفظ الكفاية في كتب التراث في كلام أصحابها، فقد ورد في معرض تفسير قوله تعالى ﴿إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين﴾([4]) أن معنى الكفاية: سد الخلّة والقيام بالأمر([5]).

وورد كذلك عند ابن كثير في تفسير قوله تعالى ﴿والذي نزل من السماء ماء بقدر﴾([6]) يقول:" ...أنه يرسله بحسب الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية"([7]) فالكفاية هنا تعني بقدر الحاجة وهو في مقابل قوله "بحسب الحاجة" أو تعني بقدر كافٍ، أو بقدر ما يكفيهم.

ومثله ما جاء أيضا في صحيح مسلم في قوله إن"النفقة مقدرة بالكفاية"([8]) أي مقدرة بالحاجة.
أما الكفاية فيما ذكره البيهقي في قوله "...ولا يتوكل على الله إلا من عُرف بالولاية والخلاية والكفاية..."([9]) فتعني الغناء.

وكذلك ورد هذا اللفظ عند الجاحظ في تعليقه على قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "قيمة كل إنسان ما يحسن" يقول:" فلو لم تقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية ومجزية مغنية بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مقصرة عن الغاية"([10]).

وهذا يعني أن الكفاية ليست النهاية فهناك ما يفضلها، وهي مستوى من المستويات التي يُرجى تحقيقها للوصول إلى الغاية، وبهذا المفهوم تقريبا وردت عند ابن جني في قوله: "وأنا بإذن الله تعالى ومعونته وطوله ومشيئته أبلغ من ذلك فوق قدر الكفاية، وأحرز فيه بتوفيق الله قصب السبق إلى الغاية"([11])، فهو لا يقبل بالكفاية بل يطمح إلى مستوى أعلى للوصول إلى الغاية، وهذا يدل أيضا على أن هناك قدرا فوق الكفاية يُطمح إلى تحقيقه لبلوغ الغاية.

وجاء لفظ الكفاية عند الجرجاني في قوله:" ... فلولا الإخلاد إلى الهوينا وترك النظر وغطاءٌ ألقي على عيون أقوام لكان ينبغي أن يكون في هذا وحدَه الكفاية وما فوق الكفاية"([12]) بمعنى درجة الاكتفاء والوصول إلى الحد أو فوق الحد، وبهذا دليل على مستويات الكفاية.

أما المقري فجمع الكفاية مع القدرة في قوله: "...أقام سبحانه الحجة وفرّق بين الأمر والإرادة وأعطى الكفاية من القدرة"([13]).

فالقدرة في هذا القول أعم من الكفاية، والكفاية جزء من القدرة، وهذا يخالف ما سيتضح فيما بعد، من حيث اشتراكهما في المفهوم، وترادفهما أحيانا، وكذلك من حيث إن القدرة جزء من الكفاية، والكفاية أعم من القدرة.
ولذا يشرع هنا السؤال: كيف نُعَرِّفُ الكفايةَ بأنها قدرة مع أن الكفاية من القدرة؟

ويتضح لي من المفاهيم السابقة أن الكفاية هي القيام بأمر ما والوصول إلى درجة معينة من الإتقان، تتفاوت هذه الدرجة تبعا للشخص الذي يقوم به، بحيث تصل هذه الكفاية أحيانا إلى مستوى التميز ضمن مستويات المقبولية.

ولذا تنوعت مفاهيمها تبعا لتوجه صاحبها ومنطلقه، ودارت في مجملها حول مفاهيم مجاورة تقترب أو تبتعد عنها، مرتبطة بعلائق تربطها، لا تخرج عن المفاهيم التالية: الاستعداد، القدرة، المعرفة، الملكة، المهارة، وارتباطها بالأداء والإنجاز. وقبل البدء ببيان اقتراب هذه المفاهيم أو ابتعادها عن الكفاية أشرع بالحديث عن الكفاية في اللسانيات الحديثة.

([1]) ابن منظور، لسان العرب، ط3(دار إحياء التراث، بيروت، 1999م) مادة (كفي). الفيروز أبادي، القاموس المحيط، مادة (كفي).
(2) ابن منظور، لسان العرب، مادة (غني).
(3) البخاري ،الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل ، صحيح البخاري ،بيت الأفكار الدولية، الرياض، 1998م، كتاب فضائل القرآن، باب: في كم يُقرأ القرآن، حديث رقم5051 ص1002.
(4) سورة آل عمران: الآية، 124.
(5 ) الشوكاني، فتح القدير، ،1/570.
(6) سورة الزخرف الآية 11
(7) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ، 3/157.
(8) النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم،  تحقيق، محمد فؤاد عبد الباقي،(دار إحياء التراث، بيروت) 3/1338.
(9) البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين ، شعب الإيمان،  تحقيق، محمد بسيوني زغلول، ط1 (دار الكتب العلمية، بيروت، 1410 هـ) حديث رقم(1295)، 2/104.
(10) الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق، فوزي عطوي، ط1(دار صعب، بيروت، 1967م)1/59.
(11) ابن جني، سر صناعة الإعراب، تحقيق، حسن هنداوي، ط1( دار القلم، دمشق، 1985م) 1/4.
(12) الجرجاني، عبد القاهر، دلائل الإعجاز، تحقيق، محمد التنجي، ط1(دار الكتاب العربي، بيروت، 1995م) 1/ 306.
(13) المقري، أحمد بن محمد، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق، إحسان عباس، ط (دار صادر، بيروت، 1968،)6/310.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال