المَثَل الجمالي والنقد الأدبي.. معرفةُ القوانين العامـة التي تحكم الظواهـر الأدبيـة والفنية في عصر معين

من أهم إنجازات "علم الجمال" في العصر الحديث اكتشافـهُ "للمَثل الجمالي" الذي تتم بمعرفته معرفةُ القوانين العامـة التي تحكم الظواهـر الأدبيـة، والفنية في عصر معين.

إن كل إنسان يُنتج بحسب حاجته إلى الأشياء. وينتج هذه الأشياء وُفق المقاييس التي تنظِّمُ طبيعتَها، ولكنه يسعى - دائماً - إلى تطوير ما يُنتج ضمن المقاييس التي يرغب فيها، أي في أن تكون عليه.

وهذه المقاييس هي التي تكوِّن "المثل الجمالي" الذي يرغب فيه.
إن " المَثل الجمالي " هو المقياس الذي يُنتج الإنسان أشياءه وفق معطياته.

والفنان ينتج فنّه ضمن التصورات التي يرغب فيها.
وهذه التصورات ما هي إلا  ذلك "المَثل الجمالي" الذي ينـزع إليه، ويستقر فيه.

وبمعنى آخر: إن "المَثل الجمالي" يقدّم فائدتين هامتين إلى الفنان - ومعه الأديب طبعاً - لا يمكن الاستغناء عنهما، إذ بدونهما يتراجع الفن و الأدب، ويضعف دورهما، وربما يتلاشى .

فهو في الحالة الأولى يُشكِّل مقياساً لإنتاج إبداع الفنان وُفق المقاييس التي تشكّل لديه هذا المَثَل.
وهو حين يكتب أو يرسم أو يشكّل عملاً فنياً ما يقوم ببنائه على ضوء النموذج الفني الذي كوّنه لديه "المثل الجمالي".

فالمسرح في عصر النهضة الأوربي شدّد كثيراً على الالتزام بالوحدات الثلاث، وعلى عدم الخلط بين "التراجيدي"  "و الكوميدي"، وعدم "الإسفاف" في استخدام لغة العامة "أي لغة الشعب"، واعتبار اللغة اليونانية هي الأسمى والأكثر نقاء، وأكّد على أن الموضوع القديم هو الموضوع الأساسي الذي يصلُحُ لكي يكون مادةً للمسرح.

وهذه السمات التي أصبحت فيما بعـد قوانين للمسرح الكلاسيكي في أوربـة وُضِعـت بناءً على النموذج المسـرحي اليونانـي الذي أرساه و يوربيدس، ورَسَم قواعده أرسطو.

وهذا النموذج اليوناني كان يشكّـل – بالنسبة إلى المسرح الأوربي في عصر النهضة – "المَثل الجمالي"، أي المعيار الذي يُصبح العمل المسرحي جميلاً كلّما اقترب منه، أو من تحقيق أبرز ما فيه، ويُصبح قبيحاً كلّما ابتعد عن محاكاته.

و"المَثَل الجمالي" يشكّل في الحالة الثانية حافزاً مهمّاً لا بدّ منه لكي يُنتج الفنانُ فنَّه، والأديب إبداعاته.

فعن طريق إيمان الفنان "بمَثَلٍ جمالي" أو أكثر؛ فإنه يسعى إلى نقْله من حيّز المفهوم إلى حيّز القيمة؛ أي يجعله مجموعةً من القيم الجمالية من خلال تمريره له عبر ذاته، وأدواته الفنية التي يمتلكها.

و"المَثَل الجمالي" حين ينتقل إلى "قيم جمالية" يكون قد أدّى دور الحافز الأقوى لممارسة المبدع لإبداعه.

ومقابل ذلك حين لا يكون هناك "مُثُل جمالية" لدى المبدع؛ أو بمعنى أكثر دقّة حين تهتزُّ تلك المُثُل الجمالية في ذهنه، فإنّه يتراجع؛ لأنّه لا يجد شيئاً مهمّاً يكتبُ عنه، أو يدفعه إليه، أو يسعى إلى تجسيده.

وهذا ما يحدث حينما تهتزّ "المُثُل الجمالية" في مرحلة معيّنة، حيث تتشابه أصوات المبدعين فنانين أو شعراء أو ما سواهم، ويختفي التميّز والخصوصية، والتفرّد وتلفظ حرارة الفن أو" شعرية الفن "أنفاسها.

ولعلّ كلّ ذلك يشكّل أبرز مظاهر الأزمة التي يُعاني منها الشعر العربي الجديد "شعر فترتي الثمانينيّات، والتسعينيّات"، حتى ليمكن تعميم ذلك على الأزمات التي يعيشها المسرح والأغنية والفن العربي المعاصر بشكل عام.

والفن يكون أقوى في مرحلة من أخرى؛ لأنّ "المُثُل الجمالية" أكثر وضوحاً، وإيمان المبدعين بها أكبر من تلك، وهذا هو الذي يدفعهم؛ لأن يكتبوا ويعبّروا ويتميّزوا ويتفرّدوا.

ممّا تقدّم نلاحظُ أنّه حتى ينمو الإبداع ويتميّز لا بدّ من وجود "مُثُل جمالية" لتحفزَه على ذلك، وليكتب ضمن مقاييسها.

هذا بالنسبة إلى أثر "المَثَل الجمالي" في الفنان، أمّا أثرُه في الناقد فيتمثّل من خلال سعي الناقد إلى تقويم الخطاب الإبداعي ضمن معطيات ذلك "المَثَل"، فيسعى إلى دراسة ذلك الخطاب والحكم عليه جميلاً أو قبيحاً، تراجيدياً أو كوميدياً أو جليلاً ضمن المعايير التي يصوغها "المَثلَ الجمالي" الذي يتبناه.
لقد كان المَثَل الجمالي موجوداً سابقاً لكن "علم الجمال" هو الذي اكتشفه، وأسّس له، وبلوره.

ولا بدّ للناقد اليوم من الاعتماد على معطياته في دراسة كافة أشكال الخطاب الإبداعي التي تواجهه ؛ لأنّ معرفةَ حدود ذلك المَثَل في ظاهرة من الظواهر بالقياس إلى الفترة التي أنتجتها يُساهم في الأمور التالية:

1- تُعزّز معرفةُ "المَثَل الجمالي" قدرةَ الناقد على فَهم تلك الظاهرة من خلال اكتشاف قوانينها العامّة، والحدود الأساسيّة التي تتحرّك ضمنها الظاهرة الأدبية في ذلك العصر.

فمعرفةُ الناقد للمُثُل الجمالية السّائدة في عصر النهضة العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يُساهم في معرفة "المرجعيّات" الأساسيّة للتيّار التقليدي في الخطاب الشـعري السـّائد في تلك الفترة، وفي معرفة القوانين التي تحكمه.

2- توفّر معرفةُ "المَثل الجمالي" في الظاهرة الإبداعية للناقد السُّبل للتعرّف إلى القيم الجمالية السّائدة في العصر المعني.
علمـاً بأنّه يمكن أن تُساهم القيم بالتوصّل إلى معرفة ملامح المَثَل؛ لأن التداخلُ بينهما واردٌ وطبيعي.

3- تُسهِمُ  معرفةُ الناقـد "للمَثَل الجمالي" في الظاهرة في فهم بِنية النصّ الإبداعي.
فالمَثل الجمالي في التيار الإحيائي ومن ثَمّ في التيار التقليدي في الشعر العربي الحديث هو عمود الشعر.
وتعرّفُ الناقـد إلى طبيعة هذا العمود، وتفاصيله في الشعر العربي القديم هو تعرّفٌ أكيدٌ ومباشر لبنية التيار الشعري الإحيائي والتقليدي، وبنائه المعماري.

4- وتُفيدُ معرفة الناقد "للمَثل الجمالي" أيضاً في معرفة المؤثّرات التي ساهمت في تكوين النص أو الظاهرة المدروسة؛ أي معرفة النصوص التي دخلت في عمليّة تناص مع النص المدروس.
وهو بذلك يوفّرُ للناقد معرفة الجديد الذي قدّمَه المبدع بعد معرفة النصوص الأخرى.

وكلُّ ذلك يُساعد بدوره على تحديد موقع المبدع أو الظاهرة الإبداعية في موقعهـا التاريخي الصحيح، وبخاصّة إذا أجرى الناقد الدراسةَ على مجموعـة مـن النصوص المختلفـة التي تنتمي إلى ذلك العصر.

ممّا تقدّم نلاحظ الفائدة الكبيرة التي يُقدّمها "المَثَل الجمالي" إلى كلٍّ من  المبدع والناقد.
ويمكن للناقد السعي إلى دراسة بعض الظواهر الإبداعية في الخطاب الشعري العربي من اتكائه  في ذلك على معطيات "علم الجمال"، و"المَثل الجمالي"، وما يمكن أن يُقدّماه من إمكانات، نظنّ أنها كبيرة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال