التنظير العربي للبنيوية بين الالتزام الدقيق بمقولاتها والخروج على أطروحاتها

إذا كانت البنيوية قد نشأت في فرنسا في الستينات من القرن العشرين، وكتب فيها، تنظيراً وتطبيقاً، عدد كبير من البنيويين في شتى الحقول العلمية، بدءاً بالأدب وانتهاءً بالنقد الأدبي، ومروراً بالألسنيّة والأنثربولوجيا وعلم النفس والماركسية والأبستيمولوجيا، وحتى الرياضيات... الخ، فإنها انتشرت بعد ذلك وهاجرت إلى معظم بلدان العالم، ونظّر لها وفيها باحثون ونقاد في أمريكا (كيرزويل نموذجاً)، وبريطانيا (تيري إيغلتون نموذجاً)...

وعندما وصلت إلى وطننا العربي متأخرة نظّر لها، وكتب فيها باحثون ونقاد تراوحت كتاباتهم بين الالتزام الدقيق بمقولاتها (صلاح فضل)، والخروج على أطروحاتها، أو تركيب أكثر من منهج نقدي (الغذّامي)، وذلك تبعاً لاستيعاب هؤلاء النقاد للمقولات البنيوية، وتبعاً لمتابعتهم لجديدها، لأن البنيوية بُنيت بالتدريج طوال أكثر من ثلاثين عاماً.

فمن شهد مقولاتها في مرحلة نشوئها وظل يراوح عند مرحلة النشوء بات متخلفاً إزاء مقولاتها التي جدت في مرحلة ازدهارها أو احتضارها، ذلك أنها غيرت جلدها، وطورت مقولاتها، خلال مسيرتها النقدية: فعندما وجدت البنيوية نفسها أمام الباب الشكلاني المسدود، بحثت عن اتجاهات تطيل أمدها، فتبنت المزاوجة بينها وبين الرؤيا الاجتماعية التي جعلت منها اتجاهاً بنيوياً جديداً (البنيوية التكوينية).

كما جدّت اتجاهات نقدية جديدة خرجت من قلب البنيوية، ثم استقلت عنها كمناهج نقدية جديدة (كالتفكيكية).

أما النقاد البنيويون فقد طور كثير منهم اتجاهاتهم وخير مثال على ذلك الناقد الفرنسي المشهور (رولان بارت) الذي بدأ سوسيولوجياً في كتابه (درجة الصفر في الكتابة)، ثم أصبح بنيوياً شكلياً في كتابه (التحليل البنيوي للسرد)، فبنيوياً تكوينياً في كتابه (حول راسين)، فسيميولوجياً في كتابه (نظام الموضة)، فتفكيكياً في كتابه (س/ز)، فناقداً حراً في كتابه (لذة النص)...

وهكذا كتب في البنيوية مفكرون وباحثون ونقاد عرب في الفكر والنقد، بدءاً بزكريا إبراهيم، وصلاح فضل من مصر، وعبد الفتاح كيليطو، وصدوق نور الدين، ومحمد برادة، ونجيب العوفي من المغرب، وعبد الملك مرتاض من الجزائر، وفؤاد أبو منصور من لبنان، وعبد الله إبراهيم من العراق...، وغيرهم.

ومن الملاحظ أن هذا المنهج النقدي بدأ في بلدان المغرب قبل المشرق، بسبب إطلال مثقفي المغرب مباشرة على الثقافة الأوربية، وشيوع الثقافة الفرنسية في هذه البلدان، ثم أخذت به بلدان المشرق العربي.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال