حاول الباحث اكتناه الأنساق في الأعمال الأدبية (الحكاية الشعبية –والحكاية الخرافية، وحكايات الأطفال)، متخذاً من تشكل الأنساق في الحكايات نقطة انطلاق لإثارة قضية عميقة الدلالة هي ميل الفكر البشري إلى تشكيل الأنساق في كل إبداع له، وطغيان أنساق معينة دون أخرى على أنماط معينة، ثم إمكانية تجسيد هذه الأنساق البارزة لخصائص أصيلة في بيئة الفكر الإنساني.
وقد وجد الباحث (الأنساق الثلاثية) في الهندسة الإقليدية، وفي المسرح (الوحدات الثلاث: الزمان، والمكان، والموضوع)، وفي الثالوث المسيحي (الأب، والابن، والروح القدس)، وفي مذهب فرويد (الأنا، والأنا الأعلى، والهو)، وفي البنية الطبقية للمجتمع (الطبقة العليا، والدنيا، والوسطى)، وفي الديالكتيك (الشيء، وضده، وتركيبهما).
وقد استثمر الباحث النسق الثلاثي في تحليله لأغنية شعبية، هي:
1- في الزمن الذي خلق فيه دنديد جميع الأشياء
2- خلق الشمس والشمس تولد، وتموت، وتعود ثانية.
3- خلق القمر والقمر يولد، ويموت، ويعود ثانية.
4- خلق النجوم والنجوم تولد، وتموت، وتعود ثانية.
5- خلق الإنسان والإنسان يولد، ويموت، وأبداً لا يعود ثانية.
تتشكل بنية هذه الأغنية من تفاعل ثلاث حركات هي ( X, L, A)، وتتشكل الحركة الرئيسية من تكرار جملة أساسية ثلاث مرات، أي من نسق ثلاثي: C, B, A يغذّي حسّ التوقع بأنه سيعود ليتكرر من جديد.
لكن النسق لا يمضي في تكراره بصورة نهائية، بل إنه بعد الحدوث الثالث ينحّل في الحركة (X) لينشأ من انحلاله تغيّر أساسي في بنية الأغنية.
ويُحدث هذا التغير هزّة مفاجئة تستقي القصيدة منها دلالاتها الجذرية، وتتجسّد فيها رؤياها العميقة للوجود وللثنائية الضدية التي يشكلّها العنصران: الإنسان /والطبيعة الجامدة.
وليس من شك في أنه لولا حدوث التغير بعد اكتمال النسق الثلاثي لبقيت القصيدة مسطحة، ولفقدت قدرتها على المفاجأة ودلالتها الوجودية.
وبتقصي أعمق ندرك أن الحركة الأولى (A) تتشكل من جملة أساسية تمّهد لنشوء النسق، وتحتوي على عناصره كلها، عن طريق الدلالة الشمولية (خلق كل الأشياء).
وكل ما يتلو هو جزء من هذا الكل المخلوق. فتتكون جملة ثانية تركز على خلق عنصر جزئي محدد ينتمي إلى الأشياء المخلوقة، وللجملة الثانية تركيب بسيط:
(فعل ماض + مفعول به + مبتدأ + فعل مضارع (1) + فعل مضارع (2) + فعل مضارع (3) + تابع ظرفي..
هكذا يجلو تحليل الأغنية حقيقة أساسية هي أن النسق ثلاثي، وأن اكتماله بعد حدوثه للمرة الثالثة يقود إلى بدء انحلاله وحدوث تغيرات جذرية في القصيدة، وأن العلاقة بين اكتماله وانحلاله هي مكمن الدلالات الفعلي في القصيدة. ولهذا الكشف أهمية جذرية لأنه يضيء دور النسق الثلاثي في نمط أدبي معيّن.
وجلّي أن (البنية الدلالية) للقصيدة تتكون من فاعلية النسق في شكله وانحلاله، وأنها تتمحور حول عنصري الثنائية الضدية: التشابه /التضاد اللذين يربطان بين عناصر النسق المكّونة: حين يقرر البيت الأول أن دنديد "خلق جميع الأشياء" فإنه يخلق ذاتاً شمولية تحتها كل ما سيأتي من عناصر إفرادية.
الأشياء
الشمس -- القمر -- النجوم -- الإنسان
أي أن البيت يخلق علاقة تشابه بين الإنسان وكل من العناصر الأخرى (الشمس، والقمر، والنجوم) باعتبارها جميعاً أشياء.
لكن القصيدة بتسميتها الإنسان شيئاً تخلق حسّاً بالتوتر والتضاد: فنتوقع من جهة أن ما يُقال عن أي شيء من الأشياء ينطبق على الإنسان. لكننا من جهة أخرى نعرف أن الإنسان ليس شيئاً، لذلك نتوقع أن ما يُقال عن الأشياء الثلاثة الأولى لا ينطبق على الإنسان.
وباكتمال النسق يبلغ التوتر ذروته، وبورود الجملة المتعلقة بالإنسان تعود القصيدة لتؤكد عنصر التشابه بين الأشياء والإنسان، باستخدام الصيغة نفسها لوصفه (خلق.. /والإنسان يولد، ويموت) لكنها فجأة تؤكد العنصر الثاني، عنصر التضاد والتغاير، بين الإنسان والأشياء، عن طريق استخدام (لا) النافية قبل الفعل الثالث المتعلق به وبالأشياء فيما سبق، لتؤكد أن ما يحدث للأشياء لا يحدث للإنسان. ولعل فاعلية التشابه والتضاد هذه أن يكون إحدى أجدى الفاعليات وأكثرها جذرية في لغة الإبداع الأدبي بكل أنمَاطه.
وقد تبين للباحث أن هذه (الأنساق الثلاثية) لا توجد في الحكايات الشعبية أو في الأغاني وحدها، وإنما هي في الأعمال الإبداعية الفردية-أيضاً. وقد تضلل الباحثَ بعضُ الأنساق التي توحي بأنها تشكيل رباعي.
وهي كذلك بالفعل، ولكن على صعيد عدد الأسطر التي يتألف منها الرباعي.
لكنها في الواقع تشكيل ثلاثي، لأنه ينشأ من تكرار قافية واحدة ثلاث مرات، ومن إدخال عنصر توزيع في شكل قافية مغايرة مرة واحدة فقط.
فللرباعي بنية تقفوية طاغية هي: (ب ب ج ب) كما في إحدى رباعيات الخيّام:
فكم توالى الليلُ بعد النهار ++ وطال بالأنجم هذا المدار
فامشِ الهوينا إن هذا الثرى ++ من أعينٍ ساحرةِ الاحورار
هكذا يدخل عنصر تنويع بسيط في الحيّز الثالث للقافية، وتتشكل دائرة مفتوحة فجأة، فتأتي (ب) في الحيز الرابع للقافية لتغلق الدائرة المفتوحة، ولتخلق انطباعاً تاماً بالكمال الشكلي والإيقاعي والصوتي.. ومنشأ هذا الكمال هو اكتمال النسق الثلاثي للنظام التقفوي بالطريقة (ب ب ج ب) وباكتمال النسق الثلاثي يكتمل الرباعي وينتهي، ويتشكل عالم مستقل تام.
وهذه الأنساق الثلاثية موجودة في معظم أغانينا الشعبية: أبو الزلف، وعلى دلعونا، وياميجنا.. ففي أبو الزلف تقول فيروز:
ورحت أنا لعندكم ++ قبل العشا بنتفه –ب
ولقيتكم نايمين ++ وسراجكم مطفي –ب
مدّيت إيدي ع الحبق ++ لقطف أنا أقطفه –ب
صاحت بنت لكم ++ يما يما حراميه –ج
التسميات
تطبيقات بنيوية