القيم الجمالية في مجموعة (يا فدى ناظريك) لغازي القصيبي.. بشاعة الواقع على الفرد وسقوط الحلم. جمال الطفولة وبراءتها. الواقع السياسي والاجتماعي وأزمة الفرد

عكست مجموعة (يا فدى ناظريك) لغازي القصيبي ثـلاث قيـم جمالية رفدت جانبي الرؤية والرؤيا.
أول هـذه القيم (التراجيدي).

وقد أكّـدت النصوصُ البكائية هذا الجانبَ: (محمد الدرة، نزار قباني، الجواهري، قصيدتان في رثاء عيسى بن سلمان).

وتنبع قيمة التراجيدي من زاويتين، أولاهما قدرة الشاعر الفنية على تجسيد التراجيدي ونقله من مفهوم مجرّد إلى قيمة، والزاوية الثانية التي شكّلت جوهر الراجيدي مثّل الشاعرُ لها في انعكاس بشاعة الواقع على الفرد، وسقوط الحلم، والخوف، وموت الجميل المفاجىء.

والمجموعة تركز في هذا الجانب على نمطين من الجميل: الطفولة البريئة والأصدقاء الذين ماتوا.
ولعل هذا هو السبب في كثرة عـدد نصوص الرثاء، وهـي تسعة نصوص من أصل (23) نصاً عدد نصوص المجموعة.

ونود الإشارة هنا إلى أن (قيمة التراجيدي) غلبتْ من حيث المساحة المكانية على قيمتي الجميل والقبيح، والسبب عائد إلى أن (الوعي الجمالي الرومانسي) ينطلق من فلسفة استعذاب الألم وتقديسه.

ولعل هذا هو السبب في ارتفاع مستوى (الشعرية) في هذا الجانب أكثر من غيره.
أنظر مثلاً نصوص (وأوّاه يا فاروق، أأبا الفرات، أمير الفل، آه بيروت).

وثاني القيم (قيمة الجميل ).
وقد عكس الشاعر هذه القيمة في أمرين.
تمثّل الأمر الأول في (جمال الطفولة وبراءتها)، والثاني في (جمال المرأة).

وقد قدّمَ الجميلَ في شكلين أولهما (الجمال المعنوي) الذي برز في الطفولة حيثُ ركّز في هذا البعد على الجوهر، وثانيهما (الجمال الحسي) الذي برز في تجسيد الشاعر للمرأة، وقد ركّز هنا على التناسق الحسي للعناصر المكوِّنة للجميل.

ولو حاولنا أن نوحّد بين شكلي الجميل المعنوي والحسي سنقع على صورة متكاملة للجميل في جوهره ومظهره.

ولعل هذا ماأراد الشاعر أن يكرّسه في حقل الرؤيا.
فالإنسان الجميل بالمواصفات المذكورة سيكون سبباً فـي الاستقرار السياسي والأمان الاجتماعي ركني الرؤيا المذكورين سابقاً.

يقول في المرأة:
أشعلتِ عطرَكِ في المكانِ وفي فمي -- ونثرتِ جمرَكِ في الزمانِ وفي دمي
ولمستِني فرجعتُ طفـلاً صاخباً -- فـوقَ المـجرّةِ عابثـاً بالأنجمِ
أوّاهُ وجهُـكِ فاتـنٌ كحكايـةٍ -- لم تكتمـلْ كقصيدةٍ لـم تُنظمِ
أجتازُ شـعرَكِ قاربـاً فـي لجّةٍ -- سـوداءَ أبـهى من ضياءِ الموسمِ
أوّاهُ وجهـُكِ فاتـنٌ كحكايـةٍ -- لم تكتمل كقصيدةٍ لم تُنظمِ

ونودّ الإشارة هنا إلى أن المرأة المجسّدة في المجموعة امرأة غير واقعية، ولعل السقوط المخيف الذي أشار إليه الشاعر في الرؤية لعناصر الواقع، وأزمة الفرد يسوّغ له اللجوء إلى المبالغة في تجسيد البديل الموضوعي، والاحتماء المباشر (بالمَثَل الجمالي) للأشياء كافة، وهذا يؤكّدُ - من جهة أخرى - الموقف الفلسفي الذي ارتكز إليه التيار الرومانسي.

وقد خدمَ التنوّع في اللغةُ، والجدة في الصورة الفنية هذا الجانب مما جعلَ الجميلَ أكثر جمالاً.
والجميل في الفن هو الجميل في الطبيعة مضافاً إليه عناصر الذات المبدعة.
وصياغتُه إحدى مهام الفن الكبير.

ونشير هنا إلى أن المرأة في المجموعة شكّلت أحد أهم الهواجس لدى الشاعر، فهناك حنين جارف إليها، وهي الملاذ، والمأوى، وأساس التوازن للفرد:
إني أتيتـُكِ هاربـاً من أزمتي -- من كلِّ ما في عالمي المتجَهّمِ
أشكو إليكِ البعضَ كم قاسمتُهم -- عِنَبي وكم ضنّوا عليَّ بحُصرمِ
وبكيتُ في أحزانِهم  واستقبلوا -- حُزني ببِشْرِ الشّامتِ المتهكّمِ

وكان من الممكن أن تخدم هذا الجانبَ (قيمةُ البطولي) التي برزت في نص محمد الدرة، لكن النموذج الفني فيه جاء مجرّداً وضعيفاً .  
وثالث القيم (قيمةُ القبيح).

برز القبيح في المجموعة كنقيض للجميل.
وقد غطّى هذا الجانب كافةَ عناصر الرؤية التي جسّدها الشاعر (الواقع السياسي والاجتماعي وأزمة الفرد).

ومـن سمات القبيح التي جسّدتها المجموعة: القسوة، والتجبّر، والتعطّش للدماء، واللاإنتماء، والعبث، الحيادية، والتبلّد؛ أي كل ما يُفسد جمال الحياة ويشوّه جوهرها الإنساني.

ومن النماذج القبيحة التي ركّز عليها الشاعر: المحتلّ (نص يافدى ناظريك)، العصابات التي مارست القتل في بيروت (نص آهِ بيروت)، الشباب الضائع (نص هؤلاء رجالكِ سيدتي).

ونُشير هنا إلى أن الشاعر قدّم القبيح من خلال مظهره الحسي ليؤكّد بشاعته.
ومما يقول في هذا المجال:
لونُهم من رمادْ
لونُ أفكارِهم من رمادْ
لون ألفاظِهم من رماد
(أتُرى لون أسمائِهم من رماد ؟)
هؤلاءِ رجالُكِ سيّدتي
سقطوا في الماهةِ بينَ البياضِ وبينَ السّوادْ
أوجهٌ لاتفرّقُ بين السرورِ
وبين الشّقاءْ
وعيونٌ محنّطةٌ لاتحبُّ الظلامَ
ولاتنتشي بالضياءْ
 بَبغاءُ تُكلّمُهُ ببغاءْ
وجمادٌ يحدّثُهُ عن جمادٍ
جمادْ
هؤلاء رجالكِ سيدتي 

نخلص من خلال قراءتنا (لحقلي الرؤية والرؤيا)، و(القيم الجمالية) في مجموعة (يافدى ناظريك للشاعر غازي القصيبي) إلى مايلي:
1- ترفض المجموعة الواقع بكافة أشكاله السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية لأنه قبيح بكافة المقاييس.

2- غَلَبتْ المساحةُ المعطاة (للرؤية) على مساحة (الرؤيا).
وهذا أمر طبيعي بالنسبة لمن ينتمون إلى التيار الرومانسي.
فهم يرفضون الواقع ويكرّسون جهودهم لبيان بشاعته باعتبار أن العلاقة به صدامية، وهو كما يرون يحجِّم من طموحاتهم، إلى جانب أنهم أولاً وأخيراً ينطلقون من ذواتهم.

3- غلبت نصوص الرثاء على بقية النصوص، وهذا - من الوجهة المنطقية - رثاء للواقع.

4- بدا الفرد في المجموعة مأزوماً ومغترباً ومهزوماً، وخائفاً، وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن تغلِبَ (قيمة التراجيدي) على بقية القيم.

5- غلَب الشعار السياسي على الفني والجمالي في نصوص الرؤية، وبخاصة نصوص المناسبات، ولهذا فمعظمها تحكمه (النثرية)، وتضعف ( الشعرية) فيه، بينما غلب الفني والجمالي على أغلب نصوص الرؤيا فارّتقت (الشعرية) فيها.

6- غلبت المباشرة علـى نصوص الرؤية، وافتقدت - من ثم - إلى (التعميم الفني)، وسجّلت بذلك (غياب النموذج) الفني، ولهذا السبب جاء مستوى التلقي في (حقل الرؤية) ضعيفاً، بينما استطاع الشاعر في (حقل الرؤيا) أن يعمّم تجربته الفنية من خلال قدرته على تجسيده النماذج الفنية.

7- مما أضعف المستوى الفني في حقل الرؤية - إلى جانب كلّ ما تقدّم بعض - نصوص المناسبات التي تغطّي أكثر من نصف المجموعة.

8- مستوى التخييل في الرؤية تسجيلي ضعيف فنياً إذا ما قورن بمستوى التخييل في الرؤيا الذي تميّز بالخصوبة والتنوّع.
وقد خدمت رمزيةُ اللغة هذا الجانب، وكذلك الصورة الفنية، والقيم الجمالية.

9- هناك جدّة في محتوى الصورة الفنية في حقل الرؤيا قلّما نعثر عليها في مجموعات شعرية أخرى.

10- على الرغم من تنوّع المصادر الثقافية وعمقها للشاعر لم نجد لها أثراً في مجموعته بخلاف ما نراه في تجربته الروائية. 

خلاصة القول:
مهما اختلفنا مع الشاعر غازي القصيبي أو اتفقنا معه تظل تجربته الشعرية التي تمتد لأكثر من أربعين عاماً تستحقُّ التقدير والدراسة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال