تغييب العمل الحزبي والإصلاح السياسي.. العزوف عن الانخراط في العمل الحزبي وتحكم العقلية العرفية في صاحب القرار في التعامل مع الأحزاب

يمر العمل الحزبي في أزمة حقيقية، تعكسها حالة العزوف عن الانخراط في العمل الحزبي من قبل الجماهير ـ وقود النشاط الحزبي ـ، وضعف الأداء من قبل الأحزاب، مما ينعكس سلبا على عملية التحول الديمقراطي، اذ لا ديمقراطية حقيقية بدون أحزاب حقيقية، وهو ما يتطلب إعادة النظر في جميع العقبات، التي وضعتها السلطة التنفيذية، في طريق تنمية نشاط الأحزاب، وبشكل خاص ما يتعلق بقانون الأحزاب، والتوقف عن العقلية العرفية، التي ما زالت تحكم صاحب القرار في التعامل مع الأحزاب، والأعضاء المنتمين لها، اذ ما زالت فعالياتها ونشاطاتها تواجه بالمنع والرفض، والعديد من الأعضاء المنتسبين لها ما زالت الدولة تنظر لهم وكأنهم أعداء لها، فيحاربون في حقهم في العمل في أجهزة الدولة، والجامعات الحكومية والخاصة.
حتى بعد إقرار قانون الأحزاب، والذي ربط مرجعيتها بوزارة الداخلية بدلا من وزارة التنمية السياسية، تواجه الأحزاب إقامة فعالياتها الجماهيرية بقانون الاجتماعات العامة، مما يؤدي إلى خشية المواطنين، وحذرهم من الانتساب للأحزاب، والمشاركة في فعالياتها، لأنهم يشعرون أن السلطة التنفيذية وأدواتها الأمنية لهم بالمرصاد، في الاعتقال والتحقيق والمساءلة والسفر والتوظيف، مما يؤشر على أن أسلوب العرفنة مازال سائدا لدى الجهات الرسمية.
لقد ساهمت قضية الحظر الحزبي في الخمسينيات من القرن الماضي، وما أصاب أعضاء هذه الأحزاب، من سجن وحرمان من العمل والسفر، في خشية الناس من الانضمام إليها، وبالتالي أصبح قانون الأحزاب مجرد حبر على ورق، خاصة وأن أجهزة الدولة الأمنية تعمل على الدوام على اختراق العمل الحزبي، ولا تتورع عن السطو على مقارها، وسرقة سجلات الأعضاء فيها، والعمل على تجنيد ذوي النفوس الضعيفة لكتابة تقاريرهم عن هذا العضو أو ذاك.
إن الأداء الحزبي في ظل مرحلة الانفتاح السياسي، واجه ولا يزال يواجه العديد من العقبات والمشاكل، التي تقف في طريق تقدمه واستمراريته بأداء دوره السياسي والجماهيري، وبشكل خاص في الوضع المالي والاقتصادي لهذه الأحزاب، نظرا لحاجة الحزب إلى مكاتب وأعضاء متفرغين وصحف ونشرات ثقافية وبرامج ونشاطات جماهيرية، مما يعيق العمل الحزبي في غياب توفير السيولة النقدية، وهو ما تفتقر إليه غالبية الأحزاب السياسية.
إن أداء الأحزاب السياسية في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها، وبفعل العراقيل والعقبات التي تضعها السلطة السياسية في طريق رقيها وتقدمها، جعل مستوى أدائها دون مستوى الحد الأدنى، مما أصاب المواطن بالإحباط، خاصة وهو يأمل في ظل مرحلة الانفتاح السياسي، أن يتم تعويضه عن الحرمان الذي أصابه، جراء مرحلة الأحكام العرفية التي صبغت المسيرة الحكومية لمدة تقارب من الأربعين عاما، إلى جانب أن هذه الأحزاب لم تناضل بما فيه الكفاية لانتزاع حقوقها وحقوق جماهيرها، ولا حتى حقوق أعضائها يوم كانت أجهزة السلطة ترمي بهم في المعتقلات، أو تحاربهم في أرزاقهم وقوت أطفالهم، فقد داست أجهزة الدولة دون مبالاة أو اكتراث على حقوق الأفراد والأحزاب، لأنها تنظر إلى الأحزاب والحزبيين أنهم من عالم آخر، غير عالم الوطن والمجتمع الذي يضم الجميع، مما دفع بالعديد من الأعضاء إلى ترك العمل الحزبي، مما أدى إلى تفريغ الأحزاب من كوادرها النضالية.
إن الأحزاب السياسية مؤسسات وطنية، وهي جزء من تركيبة الدولة ودستورها وقوانينها وأنظمتها، وهي مؤسسات مشروعة، تعمل في ظل سيادة الدستور والقانون، مما يعني أن نجاح التجربة الحزبية على الساحة الوطنية هو نجاح للوطن والنظام السياسي، وأن فشل الحزبية يؤدي إلى ممارسات غير مسؤولة، تنعكس سلبا على الوطن والمواطنين، ومن هنا فلابد أن تؤدي الأحزاب السياسية دورها الفاعل، في ظل رقي وتقدم المجتمع، لأن عملية تغييب الأحزاب والعمل الحزبي هو تقزيم للعمل السياسي.
ان وجود الأحزاب السياسية يؤشر على وجود وعي سياسي لدى قطاع المجتمع، وعلى إمكانية تنظيم المجتمع بشكل منظم، في ضوء ثقافة سياسية موحدة، تلتقي جميعها على الدفاع عن الوطن وجماهيره الشعبية ومصالحها المشروعة، وهي تؤشر أيضا على أن التحول الديمقراطي لا يمكن نجاحه، في ظل غياب عمل حزبي، فأعضاء الأحزاب السياسية هم من الناس المميزين، فالشخصية الجماعية للحزب السياسي ذات أهداف تخدم تعزيز المصلحة الوطنية، بطرق ووسائل مشروعة، ولهذا فان ضرورات المسيرة الديمقراطية هو في السعي لفسح المجال أمام نشوء أحزاب سياسية، والعمل على إيجاد المناخ الملائم لعمل هذه الأحزاب، لأن الحزب جزء مهم من مؤسسات المجتمع المدني، ولأن الديمقراطية لا يمكن لها أن تسود بدون وجود أحزاب سياسية، حيث لا ديمقراطية من دون أحزاب سياسية، فالديمقراطية تعتمد بشكل واع على مفهوم الرأي والرأي الآخر، وهذا لن يكون في غياب الأحزاب السياسية.
إن الحزب السياسي ظاهرة أو منظمة في مسلسل العملية السياسية، مقارنة بالظواهر والتنظيمات السياسية الأخرى في تاريخ البشر السياسي، وقد تركزت تجارب الأحزاب في العصر الحديث على كيفية تنظيم ممارسة الحرية، حيث الحرية أمر حيوي ومقدس للفرد والمجتمع، وممارسة الحرية لا يمكن أن تتم بدون قبول مبدأ الاختلاف والحق في الاختلاف، والحزب السياسي هو حلقة الاتصال التي لا غنى عنها بين الشعب والجهاز الحكومي، وهو الذي يقوم بتنظيم الشعب، والسعي بتوعيته توعية سياسية، وهو وسيلة جيدة لتنظيم انتقال السلطة وممارسة الحكم.
ان الحكم الفاعل والمؤثر هو المنبثق عن الممارسة الحزبية الفاعلة والنشيطة، وان الدولة الذكية هي من تسعى لخلق الأحزاب، من خلال توفير البيئة الملائمة لنشوئها وعملها ونشاطاتها، وهي الدولة التي لا تخشى النشاط الحزبي المشروع، والذي يستظل بمظلة الدستور والقانون، والمشاركة السياسية لا يمكن أن تتم الا تحت خيمة الديمقراطية، والتي لن تكون بغياب العمل الحزبي، وفي مقدمة أنماط المشاركة السياسية النشاط الحزبي، والنشاط الانتخابي والعمل النقابي، وجميعها ترتبط بمبدأ التعددية السياسية، وحرية التعبير وحرية الاجتماع السلمي، وحرية الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية، كل ذلك من أجل الوصول الى ضمان حق الفرد والجماعة في المشاركة في الشؤون العامة في البلاد.
إن عملية التحول الديمقراطي لن تتم في ظل سياسة تغييب الأحزاب واستهدافها وملاحقة أعضائها والتضييق عليهم، والنتائج المتوخاة من وراء ذلك تقزيم العمل السياسي، إلى حد استخدامه كديكور لا يتجاوز الغطاء الخارجي، الذي يؤدي إلى أي نوع من تقدم المجتمع ورقيه.
غالب الفريحات
أحدث أقدم

نموذج الاتصال