الإفقار على المستوى العالمي في مركز القلب من أزمة الحضارة الرأسمالية

لإثبات هذه العلاقة المركزية بالنسبة لتحليلي، بدا لي من الضروري في البداية أن أخضع التاريخ الحديث لاختبار "المدى الطويل".

فكان من الضروري الرجوع لبداية تكوين الرأسمالية على أساس التناقضات في الأنظمة السابقة عليها ("الأنظمة الخراجية" كما أسميها)، وبهذا أقف مع الأقلية من المفكرين الذين لا يؤمنون بأن الرأسمالية قد نتجت عن "المعجزة" الأوروبية، أو "الاستثناء الأوروبي".

فأنا أؤكد، على العكس من هؤلاء، أن التناقضات الأساسية ذاتها كانت موجودة في داخل جميع الأنظمة الخراجية السابقة على الحداثة، وأن تجاوزها عن طريق الرأسمالية كان في سبيله للحدوث في البلدان غير الأوروبية.

والرأسمالية "الأوروبية" لم تكن سوى أحد الأشكال الممكنة للرد على ضرورة التطور العام، ولذا فمن المهم توضيح القسمات الخاصة لهذا الشكل.

وقد لخصت هذه القسمات في جملة بسيطة وهي: التراكم بالنهب - لا في المرحلة الأولي (بالتراكم البدائي أو الأولي) – في جميع مراحلها.

فهذه الرأسمالية "الأطلنطية"، بمجرد نشأتها، أخذت في غزو العالم وأعادت تشكيله على أساس الاستمرار في نهب المناطق التي استولت عليها، والتي صارت التخوم المسودة للنظام.

ولا يتعلق الأمر بالتاريخ (الماضي الذي جرى تجاوزه) وإنما بالحاضر (وبالمستقبل طالما بقينا في إطار الرأسمالية التاريخية)، وبالرأسمالية القائمة - التي لا يُتصوّر قيام غيرها.

وهذا يعني أنه علينا أن ندرس جميع تناقضات الرأسمالية - في أشكالها القديمة والجديدة - والتحديات التي تمثلها - في تعبيراتها القديمة والجديدة كذلك - في هذا الإطار. علينا أن نجمعها حول المحور المركزي للعولمة المستقطِبة وهي الشكل الخاص للعولمة الرأسمالية منذ نشأتها، أي منذ خمسة قرون وحتى اليوم.

وهذه العولمة ليست جديدة، بل قد بدأت مع تدمير الأمريكتين وإعادة تشكيلهما وفق متطلبات التراكم عن طريق النهب، والذي تم في القرن التاسع عشر، منذ عام 1850 تقريباً.

ومع ذلك فقد فشلت هذه العولمة "المنتصرة" في فرض وجودها بشكل مستقر، فبعد أكثر بقليل من نصف قرن من الانتصار، الذي بدا وكأنه يعني "نهاية التاريخ"، اهتزت قوائمها تحت تأثير الثورة الروسية، والصراع المنتصر لتحرير بلدان آسيا وأفريقيا الذي شغل تاريخ القرن العشرين، وكون الموجة الأولى للصراع من أجل تحرير العاملين والشعوب.

ومن هنا فالرأسمالية التاريخية تحمل ما شئت من الصفات فيما عدا الثبات والبقاء، فهي لا تعدو كونها مرحلة عابرة من التاريخ.
والطعن الأساسي في قيامها - الذي تعتقد الغالبية من مفكري "اليسار" أنه غير "ممكن" (بل حتى غير مرغوب فيه) - يشمل تهديدها عن طريق الصراع من أجل تحرير العاملين (البروليتاريا في مجموعها حسب تعبيري)، وصراع الشعوب المسودة (أي شعوب التخوم التي تكوِّن 85% من الإنسانية)، ولا يمكن الفصل بين هذين الجناحين من الصراع.

فلا يمكن الخروج من إسار الرأسمالية عن طريق نضال البروليتاريا في مجموعها وحده، ولا عن طريق نضال الشعوب المسودة وحده.

فلا خروج من الرأسمالية إلا إذا ارتبط هذان الجناحان من التحدي الواحد بالآخر، وبقدر قوة هذا الارتباط. وليس من "المؤكد" أن يتحقق هذا الارتباط وفي هذه الحالة قد يجري "تجاوز" الرأسمالية بانهيار الحضارة، بل ربما حتى انتهاء الحياة البشرية. ومن ناحية أخرى، من الممكن تحقق هذا الارتباط.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال