دائماً كلما قرأت مجموعة شعرية متواضعة أطرح على نفسي السؤال التقليدي: ماهو الشعر؟ وأتبعه بأسئلة أخرى عن علاقته بالنثر، والفـرق بينهما وكذلك بالفنون الأخرى.
أبدأ بهذا الكلام وأنا أقرأ مجموعة شعرية بعنوان (قصيدة الأفراد وعشر قصائد أخرى تشبهها) لفيصل أكرم.
- فأول ما يفاجئنا في المجموعة التكرارُ غير المسوّغ فنياً أو جمالياً بكافة أشكاله: المفردة والتركيب والصورة والفكرة والبناء.
ومما يقوله الكاتب في هذا المجال:
عصماءُ هذي الأرض في أقوالِها
عصماءُ هذه الأرضُ في أحوالها
عصماءُ نكتبُها على الأصدافِ واللغةُ احترامُ
وانظر (ص 13، 14).
وكذلك قوله:
غرّدْ إذاً، غرّدْ إذاً يتعلمُ التغريدَ منكَ غرابُ
غرّد إذاً
غرّدْ فلن تنفكَّ فيكَ رقابُ
غرّدْ إذاً / غرد إذاً
والتكرار هنا أجهزَ على كل ماله علاقة بالشعر، أو حتى بالنثر الفني.
وحين لايكون عند الكاتب شيء يجترُّ نفسَه على نحو قوله:
ونحنُ نحبُّ ونحكي
نحنُ نحبُّ ونبقى
نحنُ نحبُّ ونبكي
نحنُ الحكاياتُ تُحكى، وكيفَ الرواةُ؟ كتلكَ الأغاني
وأنظر أيضاً على هذا النمط الصفحات: (21، 22، 23، 24، 34، 40، 44، 52).
- والأمر الثاني: يتبعُ التكرارَ نسخُ الموضوع، وتسجيلُه، واستخدامُ العرض المباشر في تقديمه.
إن مهمةَ الفن بعامة والشعر بخاصّة أن يشكّل عالماً موازياً للواقعين الذاتي والموضوعي يعكس الفنانُ من خلاله رؤيته ورؤاه، وكلما كانت المسافة بين القطبين كبيرة أصبح التشكيل أقربَ إلى الفن، وكلما اقترب منهما أو تطـابق معهما يدخل حيّز التسجيل.
ومانراه في المجموعة غياب المسافة، أو هناك شبه التصاق بينه وبينهما مما أدّى إلى وقوع نصوص المجموعة ضحية التسجيل والنسخ.
من ذلك قوله عن الصعلوك:
قضى عمرَه يفرّقُ بين الأصفرِ والذهبْ
قضى عمرَه يفرّقُ بينَ الشجرِ والحطبْ
ولم يقضِ ساعةً واحدةً
في التفريقِ بين نفسهِ والعذابْ
يمشي خطوةً ويقف
يمسكُ الخطوةَ ويرتجف
ويتركُ ما بين يديه للاهتزاز
يجرّدُ ما تراكمَ بين جبينه والدماغ
هو الآن يفرّقُ بين الأصفرِ والأصفرِ
يفرّقُ بين الذهبِ والذهب
ولايلتفتُ إلى الحطبِ والأشجار
- وثالثُ المآخذ على المجموعة ضعفُ الفكرة وسذاجتها.
أعني أن هناك مساحات كبيرة من الفراغ تكتنف النصوص على مستوى الدلالة.
يقول:
الآنَ صوتُكَ كالصدى
في زنقةِ الأنفاقِ والنعمِ المخبّأةِ
اعترفنا : لاالسكوتُ هو السكوت
ولاالبيوتُ هي البيوت
فما يضرُّكَ إن أعدتَ النبرةَ الأخرى
إليكَ أو استلفتَ من الجدارِ صلابةً حتى تقيكَ؟
ماذا يضرُّكَ إذا المكانُ سيصطفيكْ؟
ألستَ كالجمرِ الحنون؟ ألستَ كالبوّابِ تحرسُ قلبكَ المأخوذَ منكَ
إلى بلادٍ لن تكون؟
ألم تكن من قبلُ بين العظمِ والأعصابْ؟
ألم تكن بين التساؤلِ والجواب
فاخرج إذاً من سيرةِ الأعداءِ والأحباب
ويؤكّد ذلك في قوله:
هي ذي الحياةُ: قماشةٌ في صحنِ نادلْ
هي ذي الحياةُ: خريطةٌ بيدِ المقاتلْ
هي ذي الحياةُ وأنتَ هذا
هل ستعجبُكَ البدائل؟
ويضعف لديه المستوى الدلالي إلى درجة أننا لانجد شيئاً يمكن الوقوف عنده، أوالحديث عنه، كقوله:
تفكّرْ في لحظةِ الشوقِ أن البلادَ البعيدةَ أجملْ
وأن الرؤوس الوحيدةَ أعقلْ
ماذا تفكّرُ؟
لاشيء مثلُكَ في كل هذا إذا لم تفكر، وأيضاً تُفكِّر
ماذا سيحدثُ إن لم تكن في خضمِّ الحياة؟
وماذا سيجري إذا كنتَ أولها قادماً من عدم؟
وعلى هذا النحو تجري نصوص المجموعة.
- ورابع المآخذ الفجاجةُ، أعني التنافر والفوضى، كقوله:
سميراكَ: جرحُكَ والشبابُ
سفيراك: حبرُكَ والكتابُ
والصادقونَ: الحزنُ واللغةُ الشفيفةُ والمعاني والضبابُ
وأنتَ هنا واقفٌ لاأحد
وأنتَ هنا خائفٌ
كلهم سافروا للبلد
وقوله أيضاً:
يمشي بعيداً كالصخورِ الهابطاتِ من الجبال
- وخامسها النثرية.
ومـن علائمها: التطابق بين النص والموضوع، وضعف الفكرة، وضعف التعبير، وغياب التصوير، والتقريرية، يقول:
أنا لاأحب الشعرَ كنتُ ولم أزلْ
لكنّ شيئاً في الضميرِ يريدُ أن يهبَ الحياةَ
لمن يموت ، إذا انتهى المسكوتُ عنهُ
ولم أحبْ أحداً سوى الأطفال
طفلاً كنتُ حينَ قتلتُ رغبةَ طفلتي في العيش
طفلاً كنتُ حين تركتُ بيتي للذباب
تركتُ في شفتي الشرابَ المرَّ
طفلاً كنتُ حينَ رأيتُ صعلوكاً يخوتُ
في نبٍ الشعابِ ويعسلُ
ورأيتُ أفرادَ الرجالِ ولم أرَ الأزواجَ إلا في بيوت
كلُّ ما فيها بعيدٌ تائهٌ عني، ولكني أراهُ
ولم أبتْ يوماً هناكْ
- وسادس المآخذ ضعف تناول الحالة والطرح:
عصماءُ هذي الأرضُ والروحُ اعتصامُ
كل ما في الأرضِ من تعبٍ كلامُ
وحدَها الأسماءُ، نكتُبها ونمشي خلفَها
ونعودُ ننسى أنها اللغةُ الحلالُ
فهل يفسّرها لنا الفعلُ الحرامُ؟
- والأمر السابع الذي زاد الطين بلّة وجعل النثرية أساس المجموعة إعطاء الكاتب المساحة الكبرى للرؤية التي بُنيت على تأكيد الوحدة والفراغ والأسئلة الساذجة، بينما جاءت الرؤيا ضيقة، وغيـر واضحة بحيث لاتعرف ماذا يريد الشاعر.
وهذا أمرٌ طبيعي للتطابق الذي أشرنا إليه بين طرفي الإبداع والموضوع.
يقول:
ماذا تجرّبُ إن أتيتَ ، ولم تجد أحداً سواكْ؟
ماذا تجرّبُ إن رأيتَ ، ولم يركْ أحدٌ هناكْ؟
ماذا وهذا أنتَ فيه ، ومنكَ قد خرجتْ يداكْ؟
من أينَ تفتحُ جرحَكَ الممتدَّ في جسدِ التراب، وأنتَ وحدَكَ والغياب؟
العذابُ هو العذاب
والكتابةُ رغمَ أنكَ خارجٌ منها ستبقى في الكتاب
هل سوفَ يفهمُكَ الترابْ
ستقولُ: ما قد عاشَ فينا
قد أماتَ الصمتَ فينا ثم ماتْ
- والأمر الثامن الـذي جعل المشكلة أكبر القلقُ الواضح في اختيار الشكل الفني للنصوص، فالمجموعة تتعاطى مع نظامي التفعيلة والعمودي.
التسميات
دراسات روائية