في مجموعة هيلدا إسماعيل (ميلاد بين قوسين) للمتلقي أن يخوض كافة الاحتمالات في الدلالة والبناء الجمالي.
فأول ما تؤسس له الكاتبة في الرؤية تعميمها للحزن ونقله من حالة فردية إلى حالة إنسانية:
أنا آلةُ الحزن تعملُ ليلَ نهار في معمل الإنسانية
تخيطُ أذيالَ الخيبةِ بورقِ الدانتيل
وتطرّزُ البكاءَ على الأكمامِ والأفئدة
وهي تنطلق في بناء الرؤية من صراعها الصريح مـع الآخر:
تتأرجحُ كُرَتي بين أفواهِهم
يقتسمونَ دمائي بأحاديثِهم، يُشعلونَ الحزنَ في قلبي
ويعبثونَ باللحمِ والطفولةِ وزهرِ الأقحوان
سأمتطي سلّماً وأحملُ معي خوفي
سأصعدُ إلى قلبي
وأقذفُ به بعيداً عنهم
بعيداً نحو السماء
قبلَ أن تطأه ألسنةُ الأرضِ وساكنيها، وكذلك.
إنها تتهم المجتمع بالقسوة والجهل والعنف، وهي لهذا لاتجد ضيراً من التضحية بقلبها.
وكأني بها تردّد صرخة أحد مجايليها حيث يقول: (حين رأوكِ متلبّسةً بحريرِ النومِ قربي / رموكِ بسلسلةٍ من الجبالِ وهربوا).
لكن الملاحظ أن الشاعرة لاتأبه غالباً بهذه الكثرة فتغيّر موقفها رافضةً الهرب، أو الاستسلام، فتبني رؤاها منطلقة من قيمة الاعتزاز بالذات والثقة بالنفس، وهي لذلك ترفض مقولة (الانحناء أمام العاصفة)، وتؤمن بقدرتها على مقاومتها (لستُ سـاذجةً، لستُ حزينةً، لستُ هشّةً، لست كاذبةً، لست متوحشة)، وتؤكد ذلك بقولها:
أنا يسكنُ بداخلي ماردٌ غاضبٌ منذ عصرِ الجبروتْ
ماردٌ أزرق / أتعبَه التكوّمُ في عنقِ زجاجتي
ينتظرُ من يعثرُ عليه ويُخرِجهُ من الأعماق
ليتحوّلَ لإعصارِ عشقٍ ، يرتطمُ بالقارات
يوزّعُ أعضاء الكرة الأرضية، ويقتلعُ القلوبَ الاستوائية، ثم يصبحُ الخادمَ المطيع الذي يحقّقُ أمنياتِ سيّدهِ، ويرميها تحت قدميه.
صحيح أن قوّة الفرد هنا تتشكّل من قوة العشق، لكن المشكلة تكمن في قولها: إنها تنتظر من يعثر على الزجاجة.
وكنا نتوّقع أن يخرج المارد من الزجاجة بمفرده دون مساعدة أحد، لكن الوعي المهمّش، وإلغاء الآخر المتمركز في اللاوعي الجمعي لدى الشاعرة يجعل قوّة الفرد التي تتحدث عنها ضعيفة وغير جدية، إذ ما الفائدة أن يعود المارد مرّة أخرى ليصبح الخادم المطيع الذي يحقق أمنيات سيده حتى لو كان ذلك في حضرة الحبيب.
ومما تتميّز به المجموعة ما يلي:
أولاً- الجدة في بناء الصورة الفنية.
ومن أمثلة ذلك:
لسنا بحاجةٍ إلا إلى تلفازٍ مصفّحٍ يقينا من الطلقاتِ التي تبثُّها
الأخبارُ على الهواءِ والجبنِ مباشرةً، متى يُجهزون علينا
ويستأصلون الصمتَ من حناجرنا
وقولها:
قبلَ أن أُلدَغَ من جرحِكَ مرتين
كنتُ قد لبستُ حذاءً زجاجياً
وقِرطاً من عِتاب
وقولها أيضاً:
ليس لنا إلا قلبٌ واحدٌ لنحبَّ بهِ
بينما يملكُ كلٌّ منا زوجاً من الأيدي
واحدةً لمن نحبُّ وأخرى لمن يحبّونَنا.
وقولها:
حين أُصبحُ غارقةً في السنِّ
لاأريدُ مركباً تنمو عليه الأعشاب
أريدُ شاطئاً في كلّ الأحوال.
وأيضاً: (قبرُكَ الضيّقُ داخلَ حواسي)، (الاغتسالُ بريعانِ انتخابِكَ الذي يليقُ بكَ)، (أصبحتُ طاعنةً في الجرح)، (مددتُ عينيَّ على ضفةِ اللقاء).
لقد شُكّلت جميع النصوص السابقة من دون أن تخضع للسببية المنطقية، إذ من علامات (الشعرية) تراجع العلاقات المنطقية، والشعر - في هذه الحالة - لايحاكي بل يفجّر تشكيلات لغوية مفاجئة، ومدهشة.
ثانياً- اعتمدت الشاعرة على نظام (الجمل المتوازية)، ويُقصد بها تلك الجمل التي تتفق في بنائها التركيبي والأسلوبي اتفاقاً شبهَ تام، وتستطيع من خلال ذلك تشكيل الحالة وتعميقها، ومن ثَمَّ نمذجتها وتعميمها:
ذاتَ ليلةِ أرقٍ
أرتديتُ فستانَ الحداد
رتّبتُ زينتي
ونثرتُ شعري
أضفتُ شحوباً إلى شحوبي
أفرغتُ زجاجةَ الأقراصِ المنوّمةِ على الأرضِ
شربتُ عشرةَ أكوابٍ من القهوة
وغليتُ مئةَ ورقةِ شاي
عصرتُها داخلَ جوفي
خِفتُ أن يفاجئني الحزنُ ولاأكون مستعدّةً لاستقباله
أريدُ أن أبقى مستيقظةً ومتزنةً
حتى استقبلَ حزني كحبيبٍ انتظرتُ لقاءَهُ
واشتقتُ لأن أطارحَهُ الدموع
ثالثاً- يتميّز أسلوب الشاعرة بالسهل الممتنع الذي يذكرنا بعصر ازدهار قصيدة النثر على يـد شعراء كبار مثـل: محمد الماغوط، وأنسي الحاج، ونزيه أبو عفش:
عندما تأتيني مضرجاً بعطورِ الإناث وقلوبهن
أستقبلُك بابتسامةٍ واسعة
وأنا أحملُ في يدي كوبَ شاي دافىء
أحاولُ أن أرمّمَ كلَّ ما أصابكَ من نساء
وأنتظركَ إلى أن تُنهيَ تدخينَ سيجارتِكَ
وتعطيني الكوبَ بيدٍ مرتجفة
ثم تلمسُ أطرافَ أصابعي
تدسُّ رأسَكَ في صدري
كفارسٍ خَسِرَ كلَّ ما لديه
وشَعَرَ بأنني المدينةُ الوحيدةُ التي يملكُها
رابعاً- وقد حفلتْ المجموعة بما يمكن تسميته بالصورة التشكيلية التي تتميّز بأنها كثيرةُ الألوان، تستفزّ النشاط البصري للمتلقي، وهـي مكثفةٌ باعتبار أن مساحتها ضيقة، وكأني بالكاتبة - من خلال ذلك - تهندس المكان، أو كأنها ترسم على الورق بالكلمات.
فعلى الرغم من مساحة الصورة المكانية الضيقة فإن فضاء النص واسع.
وهي تستخدم كافة إمكانات هذا النوع من الصور لرسم التجربة، مثل: التشبيه التشكيلي، والسرد التشكيلي.
ولا بد من التأكيد هنا أن الصورة في أغلب النصوص تقع ضمن المعاينة البصرية والمفارقة اللونية.
ويمكن تعميم هذه الميزة على أغلب النصوص.
خامساًً- اعتمدت الكاتبة على الصورة اللوحة.
ويكاد هذا النوع من الصور يستحوذ على ثلث المجموعة.
ومما يتميّز به هذا النوع من الصور الإدهاش والتكثيف والتنوّع والمفارقة.
و(الشعرية) بهذا المعطى تعني أن ينقل الشاعر قلقه وتوّتره إلى المتلقي، أي أن تكون هناك مشاركة وجدانية من المتلقي عبر عملية حدسية لاعقلية:
كنْ حذراً وأنتَ تحملني
فأنا عبوّةٌ خطيرة، صادقةٌ، وناسفةٌ
قد أنفجرُ في أيّ لحظةِ كَذِبٍ
لأحيلَها وأحيلَكَ إلى أشلاء
وقولها : لا تنمْ وفي عينيكَ دمعةُ ندمٍ / لم تنحدر بعد.
وقولها أيضاً: عذراً إن أصابتكَ أصابعُ فرشاتي
فأنا لا أُجيدُ الرسمَ ليلاً
ولكن عزائي الوحيد
أن هطولَ المطرِ قد خلطَ الألوان داخلَ مرسمي
ولم يعدْ هناكَ ما أميِّـزُ به لونَ النص
ولونَ الجرحِ الذي سأرسمُكَ فيه
نود الإشارة أخيراً إلى أنه مما يؤخذ على الشاعرة (المقدّمات) النثرية التي كانت تثبتها أمام أغلب النصوص، علماً بأن قوّة النصوص لم تكن تحتاج إلى ذلك.
ومن المآخذ أيضاً وقوع الكاتبة أحياناً تحت سيطرة السـرد المبالغ به الذي ينقل الشعر إلى تخوم النثر، والجمل الطويلة، مثل (أضحكُ للتفاصيل المترهّلة التـي تئنُ فوقَ جفونها حيـن تصطنعُ الخوفَ مـن طالعي، والاسـتخدام المبالغ فيه لأدوات الربط، والشرح والتسويغ والتبرير.
خلاصةُ القول:
تُنبىء تجربـة الشاعرة هيلدا إسماعيل في مجموعة (ميلاد بين قوسين) عن ميلاد شاعرة كبيرة.
التسميات
دراسات روائية