لقد جاء الإسلام فأحدث تغييرا جذريا في الحياة الإنسانية، وبخاصة في شبه الجزيرة العربية، وأحدثت القيم الجديدة التي جاء بها، والتعاليم التي دعا إليها إرباكا للمجتمع الجاهلي، فحل محل التعصب للقبيلة الانضواء تحت لواء العقيدة الإسلامية، هذا من الناحية الاجتماعية.
أما من الناحية الفنية فقد انقسم الشعراء إلى فرقتين:
1- فرقة تناصب الإسلام العداء وتهجوا النبي (ص).
2- فرقة أخرى تدافع عن الإسلام وتمدح النبي (ص) وتنافح عن رسالته.
وكان للقيم و الفضائل الجديدة التي جاء بها الإسلام كالاعتزاز بنصرة الدين والدعوة إلى اعتناق مبادئه، ومحاربة الشرك والمشركين، أثر في تطور فن المدح منذ القرن الأول هجري.
فقد انبرى شعراء الرسول (ص): حسّان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة ,وكعب بن مالك إلى التغني بهذه الفضائل، والدعوة إليها، وإلى التصدي للمشركين وهجائهم والرد عليهم.
وكان الرسول (ص) يحث الشعراء المسلمين على الرد على هجاء المشركين.
وللشعر في كل زمن -وفي عهد النبوة بصفة خاصة- دور خطير لأنه من أكثر الوسائل الإعلامية تأثيرا آنذاك، الأمر الذي ترك الشعراء المشركين يستغلونه في حربهم ضد الإسلام، وهجاء النبي وأصحابه، والنيل من أعراضهم وعقيدتهم.
فكانت ردَّة الفعل التي لا بد منها ضد هذه الحملة المسعورة التي يقودها شعراء الكفر، والشرك منهم "عبد الله بن الزبعرى"، و"أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" قبل إسلامهما، فكان أن كَلَّفَ النبي (ص) فريق الدفاع عن العقيدة: حسّان وعبد الله وكعب للتصدي والمقاومة، وكان شاعرنا حسّان صحيفة سيارة تحمل لواء الإسلام عاليا، و تصب الحمم المهلكة على أعدائه، وكان الرسول (ص) يحثه على ذلك فيقول له: (أُهْجُهُمْ - أَوْ هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ) رواه البخاري عن أبي هريرة.
ويقول له في موضع آخر (اُهْجُ قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ) فيقول له حسّان: (وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ).
وقال حسَّان في موضع آخر: (وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَّنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الأَدِيمِ)(1)، فقال النبي (ص): (ياَ حسَّانُ اُهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جِبْريلَ مَعَكَ أَوْ فَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَعَكَ) (2).
وروي أنه لما نزل قوله تعالى: (وَالشُعَرَاءُ يَتْبَعُهُمُ الغَاوُونَ , أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ, وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا َلاَ يَفْعَلُونَ, إِلاَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(3). جاء "حسّان بن ثابت" و "عبد الله بن رواحة" و"كعب ابن مالك" إلى رسول الله (ص) - وهم يبكون - قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء، فتلا النبي (ص): (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، قال: أنتم. (وذكروا الله كثيرا)، قال أنتم. (وانتصروا من بعدما ظلموا)، قال: أنتم (4) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من رواية ابن إسحاق.
ويعلق "سيد قطب" - رحمه الله - في تفسيره في (ظلال القرآن) في معرض تفسيره لهذه الآيات (والشعراء يتبعهم الغاوون...) إلى آخر الآيات. بقوله: (فهم يتبعون المزاج و الهوى، ومن ثَمَّ يتبعهم الغاوون الهائمون مع الهوى... وهم يهيمون في كل واد من وديان الشعور والتصور والقول، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس... ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته-كما يفهم من ظاهر الألفاظ – إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن، منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها، ومنهج الأحلام الموهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها.
وأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام وتتضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا، وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع, ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية نعيش فيها وتدع الحياة –كما هو مشوها متخلفا قبيحا)(5).
والذي ينبغي الإشارة إليه، أنَّ فن المديح قد اعتراه بعض الفتور خلال الفترة الإسلامية؛ لأنه فن يشيد بمظاهر الأبهة والكبرياء، وهي أمور نهى الدين الإسلامي عنها، وأوصى بخلافها: كخفض الجناح والتواضع.
فالنبي (ص) لا يحب أن يُعَظَّمَ كما تعظم الملوك , ويكره أن يُمدح كما يُمدحون.
فكان شعر المدح النبوي هو الغالب على تلك الفترة, وكان لحسّان بن ثابت صيت ذائع وهو يمدح الرسول ويذكر مناقبه وينافح عن عقيدته السمحة التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فإن المديح النبوي كفن مستقل وغرض قائم بذاته له شعراؤه ومتلقوه، سيظهر فيما بعد في العصر المملوكي عند الإمام "شرف الدين سعيد" المشهور "بالبوصيري" في قصيدتيه:
1- الهمزية:
التي يبلغ عدد أبياتها أربعمئة وثماني وخمسين بيتا في مدح الرسول (ص) و استعراض شيء من تاريخ الدعوة الإسلامية إلى آخر الخلفاء الراشدين والتي مطلعها:
كَيْفَ تَرْقَى رُقَيَّكَ الأَنْبِيَاءُ + يَا سَمَاءً مَا طَاوَلَتْهَا سَمَاءُ
2- البرأة أو البردة:
وهي ميمية يبلغ عدد أبياتها مئة وثمانين بيتا والتي مطلعها:
أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمٍ + مَزَجَتْ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
وكذا "صفي الدين الحِلِّي"* في (البديعيات) وهي قصائد في مدح الرسول (ص)، ويعد أول من جعل المدح النبوي فنا قائما بذاته بعد "البوصيري".
ومنهم كذلك "تقي الدين أبو بكر بن علي" المشهور بابن حجة الحموي صاحب كتاب (خزانة الأدب ونهاية الأرب).
وتقوم شهرته على بديعية له، مطلعها:
لِي فِي ابْتِدَاءِ مَدْحِكُمْ يَا عُرْبَ ذِي سَلَمٍ + بَرَاعَةٌ تَسْتَهِلُّ الدَّمْعَ فِي العَلَـمِ (6).
يعارض بها البردة للبوصيري: (أمن تذكر جيران بذي سلم...).
وقد نظم "ابن حجة" هذه البديعية استجابة لرغبة "ناصر الدين البارزي"، وطوى كل بيت منها على وجه من أوجه البديع.
ويرى الدكتور "عمر فروخ" أنه: (إذا كان البوصيري قد نظم بردته في مدح الرسول (ص) وجدانا وتقوى, فإن ابن حجة قد مدح الرسول (ص) ليتخذ منه موضوعا يؤلف حوله "مقالة" في علم البديع شعرا)(7).
وفي العصر الحديث يبدع "أحمد شوقي" قصيدتيه في المدح النبوي:
1- (الهمزية) التي مطلعها:
وُلِدَ الهُدَى فَالكاَئِنَاتُ ضِيَاءُ + وَفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وسَنَاءُ (8)
على غرار همزية البوصيري في مدح النبي (ص) التي مرت بنا، وهي تقع في اثنين وثلاثين ومئة بيتا.
2- وله كذلك (نهج البردة) وهي قصيدة في المدح النبوي تقع في تسعين ومئة بيتا ومطلعها:
رِيمٌ عَلَى القَاعِ بَيْنَ البَانِ وَالعَلَمِ + أَحَلَّ سَفْكَ دَمِي فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ (9)
ونرى أن "شوقي" في قصيدتيه مقلِّدا "للبوصيري" ليس إلاّ، حتى أنه نظم على الروي نفسه، في قصيدته الأولى الهمزية وكذا في الثانية الميمية، ولا عجب من ذلك، لأن الشاعر من المدرسة الكلاسيكية الاتباعية التي ترى في المحافظة على التراث، وإعادة إحيائه وظيفة أدبية سامية، ترى في كل تجديد خروجا عن طريقة القدماء في شكل القصيدة ومضمونها.
(1) - رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها.
(2)- رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب.
(3)- سورة : الشعراء , الآيات : من 224 -227.
(4)- اسماعيل يحي بن كثير : تفسير ابن كثير- دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع-بيروت- ط8- 1406 هـ/1986- ص 5/219.
(5)- سيد قطب : في ظلال القرآن- دار الشرق-بيروت-1405 هـ/1985م- ط11- ص 5/2621-2623
* صاحب البديعية الشهيرة التي تبلغ مئة وخمسة وأربعين بيتا في مدح الرسول (ص) ومطلعها:
إن جئت سلعا عن جيرة العلم + وأقر السلام على عرب بذي سلم
ومن الذين مدحوا الرسول (ص) ابن جابر الأندلسي الضرير صاحب "الحلة السيرا في مدح خير الورى" مطلعها:
بطيبة أنزل ويمم سيد الأمم + وانثر له المدح وانشر طيب الكلم
وفي القرن التاسع هجري نظم الموصلي (عز الدين علي بن الحسين) بديعية في مدح الرسول (ص) مطلعها:
براءة تستهل الدمع في العلم + عبارة عن نداء مفرد العلم.
(6)- ابن حجة الحموي : خزانة الأدب ونهاية الأرب- شرح عصام شعيتو- دار ومكتبة الهلال- بيروت- ط1- 1987- 1/8-9.
(7)- د. عمر فروخ : تاريخ الأدب العربي- دار العلم للملايين- بيروت- ط3- 1981- ص 3/340.
(8)- أحمد شوقي: الشوقيات- دار الكتاب العربي- بيروت- د.ت- 1/34.
(9)- المرجع السابق نفسه: ص 191.
التسميات
أغراض شعرية