تطرح مجموعة (على استحياء) لصلاح بن هندي على قارئها منذ البداية سؤالين:
أولهما ما علاقة المجموعة بالشعر العمودي، وما مدى التزامها بمقولة قدامة بن جعفر (الشعرُ هو الكلامُ الموزونُ المقفّى الذي يدلُّ على معنى)؟
والسؤال الثاني: ماذا أضافت هذه المجموعة إلى الشعر العمودي؟
بمعنى ما هي الخصوصية التي تمتّعت بها وهي تقارب هذا النمط العمودي من الشعر؟
وسنحاول الإجابة عن السؤالين بالآتي:
بالنسبة إلى علاقة المجموعة بالشعر العمودي فقد التزمت بما يلي:
- لقد أعلن الشاعر منذ البداية أن القصائد العصماء هي ما يشغل ذهنَه.
ولذلك التزم بكل ما يحمله هذا النوع من مزايا:
نم يا أبي نومَ العروسِ فإنما -- تُبدي عُلاكَ قصائدٌ عصماءٌ
- فالمجموعة تنحـاز للبناء المعماري العمودي بنصوصها كافة.
فهي تلتزم بالوزن والقافية، ووحـدة البيت الفنية لاوحدة النص، وتبني الصورة على الأنماط البلاغية فيه، يقول:
سالتْ على حـدِّ الظباءِ دماءُ -- واسـتنجدتْ بالفاتحين ذَماءُ
وتعفّرت بالتربِ آنافُ العِـدا -- وهـي التي ما مسّها الإزراءُ
وتطايرتْ أحـلامُ كلِّ مُدَجّجٍ -- فإذا العِـدا مـن بعدِها أشلاءُ
وزنُ الخليلِ يصيحُ من ألمِ الجوى -- فعليهِ كـم يتنـدّرُ الأبناءُ
- وتكاد المجموعةُ أن تقفَ على الأطلال كما كان الشاعر القديم يقف عليها :
يا سراجٌ كانَ يضْوي فخبَا -- وجوادٌ ظـلَّ يعـدو فكبا
أظلمتْ دنيا الأماني بعدَما -- غاب َعنها نجمُ أحلامِ الصِّبا
كم تغنَّينا بألحـانِ المُنى -- وقفزْنا مثـلَ هاتيكَ الظِّبا
- كما تتكىء، في معجمها الشعري، علـى معجم الشعر العمودي الذي يوغل في القدم، بل إنها تستعير مفرداتها منه:
آهٍ على المجدِ كمْ أرخى ذوائبَه -- يوماً على الكتفِ مسروراً بلقيانا
وكم مشينا على الأهوالِ في دعةٍ -- وفوقَنا الموتُ مشـدوهاً وحيراناً
فما نَبَا صارمٌ فـي كفِّ قائدِنا -- ولاكبا العزمُ فـي ممشى سرايانا
كذاكَ كُـنّا وما تُنسى مناقِبُنا -- ما أروعَ الدّهرَ لوعادتْ سجايانا
لقـد نأينا عن الأمجادِ وا أسفاً -- فأشرَعَ الذُّلُّ للنائينَ أحضانا
وقد ورد هذا النوعُ من المفردات في المجموعة بغزارة على النحو التالي: ( غانية، الرِّضاب، سالتْ، الظباء، مدجّج، الأنواء، غِيد، الهجير، السوط، البيد، الصحراء، الظلام، الشماء، الأشواق، ساعة البَين، ظلمةُ الليل، السيف، الهِزَبر، النوازل، القواضب، رَسِيس، الصِّيْد، النَّوى، القـدّ الهضيم، الرعابيب، اليعاسيب، عرقوب، الملوان "الليل والنهار"، المهاة).
وقد أحس الشاعر - نتيجة لذلك - بأنه في مأزق، فلجأ إلى شرح المفردات القديمة في الهامش.
ويمكن اعتبار ذلك ضعفاً.
فالسياق المميز في الشعر هو الذي يجعل المتلقي يُحِسُّ بالحالة قبل أن يفهمها.
- كما أدخلت المجموعةُ بعضَ نصوصها في أكثر من علاقة (تناص) غير موفقة مع نصوص عمودية . من ذلك قولُ الشاعر:
علـى المذلةِ غنّى اليـومَ حادينا -- (لم يبقَ شيءٌ من الدنيا بأيدينا)
نعم عَشِقْنا ولكن عشقَ حنظلةٍ الغ -- سيلِ، لا عشقَ قيسٍ وابنِ زيدونا
- ويصل (التناص) إلى درجة التطابق مع الحالة الأخرى، فقد كان الشاعر يتقمّص الحالة الموجودة في النص الآخر، أي إنه كان يوظّف حالته بناءً على الحالة التي جُسّدت في النص الآخر، بينما الأصلُ في التناص أن يُسقِط الشاعر الحالة الأخرى على حالته، ويُخرِجها من خلال ذاته وليس العكس.
أقلي اللومَ عاذلَ واستريحي -- فلن أعدو عن الشعرِ الفصيح
ومن ذلك أيضاً:
نجمُ العيونيين أمسى لامعاً -- (وفمُ الزمانِ تبسّمٌ وثناءُ)
- بل إنه يقع أحياناً في (تناص) هو لايقصده، ولكن وعيه الجمالي المأخوذ بالنمط المعماري العمودي يدفعه دفعاً إلى ذلك:
قد تعاهدْنا صغاراً أبريَا -- أنْ سيبقى وصلُنا يأبى الجفاءْ
فإذا البينُ جـدارٌ بينَنا -- فجثونَا بعـدَما ضاعَ الرجاءْ
وبكينا مثلَ طفلين جرى -- منهما الدمعُ وقد بلّ الثرى
والبيتان الثاني والثالث يكرّران الحالةَ نفسَها والعنوانَ نفسَه في قصيدة (الأطلال) لإبراهيم ناجي التي يقولُ فيها:
فإذا أنكـرَ خِـلٌّ خلّه -- وتلاقينـا لقـاءَ الغرباء
- ويستعير الشاعر أيضاً بعض المفردات والصور والمواقف التي كان الشاعر القديم يتغزّل بها، فيصف المرأة بالظبية، ويُشبّهُها بالمهاة . يقول :
كفكفي الدمعَ بطرْفِ الذكريات -- واطردي الحزنَ بعيداً يا مهاةْ
- ومما يؤكّد ما تقدّم أيضاً كثرةُ اتكاء الشـاعر على أسماء الشعراء وكبار الكتاب القدماء .
في داخلي قيسٌ يحوكُ نسيجَه -- وعلـى شِفاهي نبرةُ الخيَّامِ
وأنظر كذلك ص ( 7، و70، و15).
- نحن لسنا ضد التناص بل إننا نرى أن التناص لو أُجيد استخدامُه فإنه يغني النص، ولسنا ضد الاتكاء على الشعر القديم، فمعظم شعرنا القديم فائق، ومميز.
ولكننا نرى أن الشـاعر يبتعد كثيراً حيـن يكتب بقلم غيـره، ويرسـم بريشة فنان آخر.
فالشعر تجسيدٌ فنّي لحالة ذاتية في قراءة العالم ، وليس قراءةً للذات من خلال العالم.
أعني لقد قرأ الشاعرُ ذاتَه من خلال الشعر العمودي، وكتب مايريدُه الآخرون، ولم يكتب ما كـان يُحِسُّ هو به.
لقد غلبت الرؤيةُ على الرؤيا، وغلب الآخر على الأنا، وانتصر الموضوع على الذات.
وكل ذلك جعلَ أكثرَ الشعر في المجموعة حالةً مُسْتَنْسَخة، وغير أصيلة.
ونود التأكيد أنه ليس عيباً أن يجعل الشاعرُ الشعرَ العمودي مثلَه الجمالي، ولكن العيب ألا يستطيع الخروج من عباءته.
- ونود أن نضيف إلى ماتقدّم أن حوالي نصف المجموعة نصوص مناسـبات.
وكلُّه يصبّ في إرضاء الآخر على حِساب الذات (هناك 19 نصّاً من أصل 47).
- ولا بد من الاعتراف بأن المجموعة تُجيد التعامل مع عمود الشعر، وموهبة الشاعر بارزة في ذلك، وما لمسناه أننا أمام موهبة كبيرة وشاعرية فذّة، ولكن هذه الشاعرية افتقدت إلى الخصوصية والتفرّد؛ مثَلُ ذلك كمثل الذي يمتلك صوتاً جميلاً لكنه يؤدي أغاني أداها غيرُه.
ودائماً الأصل يتفوّقُ على التقليد.
- وهذا ينقلنا إلى الإجابة عن السؤال الثاني: ماذا أضافت المجموعة إلى العمود وما الخصوصية التي تمّيز بها الكاتب وهو ينتمي إلى العمود؟.
لقد كان لامرىء القيس خصوصيةٌ علـى الرغم من تبنيه للشكل العمودي، وكذلك جرير والفرزدق والمتنبي وأبو فراس والبوصيري وعمر أبو ريشة ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم.
لقد عبّر هؤلاء عن عصرهم، وذواتهم، وكان لكل واحد منهم نكهةٌ مميزة لاتتكرر لدى غيره على الرغم من تبنيهم للبناء المعماري العمودي، بل إنهم طوّروه وأضافوا إليه من عبقرياتهم الشيء الكثير.
برأينا لاتكمن المشكلة في تبني الشاعر لهذا الشكل أو ذلك، وإنما تكمن في طريقة توظيفه لهذا الشكل في الصياغة الجمالية المتفردة التي يرسمها.
- لقد غاب - في المجموعة - الانتماءُ إلى العصر وذات الشاعر.
فلو حذفنا من المجموعة تاريخ الطبعة واسم الشاعر والإشارات التاريخية المعاصرة من النصوص من المؤكد أننا سنحكم علـى أن النصوص تنتمي إلـى العصر العباسي أو الأندلسي أو أي عصر آخر سوى العصر الذي ينتمي إليه الشاعر.
- الخلاصة:
إن مجموعة على استحياء تنطوي على موهبة شعرية كبيرة لا تحتاج إلى إثبات، ولكنها - في معظمها - عبارةٌ عن مذكرات شخصية، ونصوص مناسبات، وتناص غير موفق مع نصوص قديمة، وأسماء شعراء قدماء، وبناء معماري عمودي، وفهمٍ يخضع للوعي الجمالي التقليدي بحيث لم يستطع الكاتب أن يوظّف كل هذا المخزون الهائل الذي اعتمده ليشكّل خصوصية له.
لقد غنّى الشاعر بحنجرة غيره، ووضع قناعاً علـى وجهه ففقدَ بذلك ملامحه، وأفقدَنا متعة الإحساس الجمالي بالشعر، ولحظة الإدهاش.
وأتمنى من الشاعر أن يعود إلى ذاته، وعصره؛ لأن ذلك سوف يجعلنا نحتفل بولادة شاعر كبير.
التسميات
دراسات روائية