محمد الماغوط.. رائد كتابة قصيدة النثر العربية الذي تمنى أن يموت ملطخا وعيناه مليئتان بالدموع

ثمة ما يشبه الإجماع والاتفاق غير المعلن على اعتبار الشاعر السوري محمد الماغوط من بين أهم الأسماء الرائدة والمؤثرة في كتابة قصيدة النثر العربية إن لم يكن أهمها جميعا. ولعل ما يرجح كفة الماغوط ويؤكد عمق الأثر الذي تركه في مسيرة قصيدة النثر، التي لم تخل بالطبع من الاعتراضات على مدى شرعيتها وانتمائها إلى المتن الشعري العربي بصفة عامة، هو أنه لم يتكئ سوى على موهبته الفطرية الجامحة دون اللجوء إلى التنظير التأصيلي أو المساجلات النقدية والمماحكات اللفظية التي انغمس معظم شعراء قصيدة النثر في غمارها. 
لم يضع الماغوط نصب عينيه نموذجا غربيا محددا يحاول محاكاته والتماهي معه والتلبس بروحه فهو لم يكن يتقن لغات أخرى سوى العربية فلم يتسن له أن يقرأ مثل بقية أقرانه الشعر العالمي الذي كان يأتي عبر قناتين رئيسيتين ولغتين طاغيتين هما الفرنسية والإنجليزية. ورغم ذلك فإن موهبته العظيمة واستعداده الفطري قد عوضاه عن افتقاره إلى الاطلاع على ما لدى الأمم الأخرى من تراث شعري غني ومتجدد شكل رافدا مهما وأساسيا في رسم بعض ملامح القصيدة العربية الحديثة. 
حين قدمه أدونيس لأول مرة في خميس مجلة شعر الشهير وقرأ له بعض القصائد دون ذكر اسمه راح الحضور يخمنون اسم الشاعر عبثا فأوردوا أسماء كثيرة من بينها رامبو وبودلير، ولكن علامات الدهشة ما لبثت أن ارتسمت على وجوههم حين أشار أدونيس إلى شاب مجهول غير أنيق لم ينجح هو بدوره في إخفاء ارتباكه وتلعثمه، وقال إن تلك القصائد التي أبهرتهم للتو هي لذلك الشاب لا سواه. 
إن شعر الماغوط يذهب إلى مخاطبة الروح مباشرة ويقتحم القلب دونما استئذان لأنه يتفجر من ينابيع القلب ويهطل من غمائم الروح حاملا سيماء تجربة إنسانية فريدة. إنه شعر يتقن التعبير عن مواجع الإنسان وغربته في هذا العالم وإحساسه المرير بالوحشة وضراوة الفقد وسطوة الظلم وعتمة المصير ويتوسل لذلك لغة حادة وجارحة وصريحة لا تخطىء في إصابة هدفها وإدراك بغيتها. 
لقد أعلن الماغوط منذ البداية أنه بلا أمل وأن الفرح ليس مهنته وأنه حليف الشقاء والأشقياء الذين لا يجدون سقفا يظلهم أو صدراً حانياً يرتمون في أحضانه وانقطع لكتابة الشعر من (غرفة بملايين الجدران) وتحدث عن حزن خاص لا يرى إلا في ضوء القمر متمنيا أن يموت ملطخا وعيناه مليئتان بالدموع. إضافة إلى كتابته الشعر كتب الماغوط المسرحية الشعرية والمقالة كما شكل مع الفنان دريد لحام ثنائيا مهما ومبهرا في عدد من المسرحيات التي وضع نصوصها واكتسبت صيتا وشهرة كبيرتين. 
وعلى الرغم من صمته الشعري في الفترة المتأخرة من حياته إلا أنه يبقى أحد أهم الأسماء المؤثرة في مسيرة الشعر العربي الحديث عموما وقصيدة النثر بشكل خاص. وقد انتزع الاعتراف بشاعريته الفذة ليس من أقرانه ومريديه فحسب بل حتى من أولئك الذين مازالوا يترددون ويتباطأون في الاعتراف بشكل صريح وقاطع بقصيدة النثر وشرعيتها الإبداعية إذا صح التعبير.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال