السيميائيات في العصر الحديث.. دراسة أنظمة العلامات: اللغات وأنظمة والإشارات والتعليمات

يقر الكثيرون أن تعريف هذا المصطلح ليس بالأمر الهين لسببين:
الأول هو تعدد وجهات النظر، والثاني: هو الحداثة.

فهم يرون أن أية محاولة للتعريف ،لابد لها أن تصطدم بتعدد وجهات النظر في  تحديد هوية هذا الحقل المعرفي تحديدا قارا.
خصوصا إذا أدركنا الحيز الزمني الذي يستغرقه وهو حيز قصير.

ويقول آخر معبرا عن ذات الصعوبات: "إن القارئ العادي، وكذلك الباحث في مجال البحوث الاجتماعية من حقهما أن يتساءلا عن موضوع هذا العلم ،إلا أنهما مع ذلك يجب أن يعلما -على الأقل- أن التعريفات والتحديدات، تختلف ولا سيما إذا تعلق الأمر بموضوع علمي لم يمر على ميلاده وقت طويل".

ولكن هذا لم يمنع العلماء من المحاولة إذ يعرفها  بيارغيرو بأنها: "العلم  الذي يهتم بدراسة  أنظمة العلامات: اللغات، وأنظمة والإشارات والتعليمات...".
وهذا التحديد يدخل  اللغة تحت مفهوم السيميوطيقا.

وهو الفهم الجديد لعلم السيمياء الذي  يعـود الفضل فيه إلى العالم الشهير فيردناند دي سوسير الذي  يقول عن السيمياء في كتابه؛   محاضرات في علــم اللغة: "أنها العلم الذي يدرس حياة العلامات من داخل الحياة الاجتماعية ونستطيع -إذن- أن نتصور علما يدرس حياة الرموز والدلالات المتداولة في الوسط المجتمعي، وهذا العلم يشكل جزء من علم النفس العام.

ونطلق عليه مصطلح علم الدلالة  (السيميولوجيا) وهو علم يفيدنا موضوعه الجهة التي تقتنص بها الدلالات والمعاني.

وما دام هذا العلم لم يوجد بعد فلا نستطيع أن نتنبأ بمصيره، غير أننا نصرح بأن له الحق في الوجود.
وقد تحدد موضوعه بصفة قبلية.

وليس علم اللسان إلا جزء من هذا العلم العام وسيبين لنا هذا العلم ما هو مضمون الإشارات، وأي قوانين تتحكم فيها.

إن دي سوسير كما نرى قد تصور وجود هذا العلم وبين اشتقاقه وأصله، كما حدد موضوعه، و نادى بحقه في الوجود ووصف علاقة هذا العلم الآتي الذي لم يكن قد ولد بعد، بكل من علم النفس الذي هو الأصل الذي ينتمي إليه العلم المبشر به، وبين علم اللسان الذي سيكون جزء منه.

كما بين وظيفته وأهميته في بيان مدلولات الإشارات ومعرفة قوانينها التي تحكمها.
إن دي سوسير كان يرى أن اللسان نسق من العلامات التي تعبر عن المعنى، وهو ما يمكن أن يقارن بلغة الصم والبكم والطقوس الرمزية الأخرى دينية كانت أم ثقافية مادامت وسط المجتمع.

وقد تزامن هذا التبشير مع ما كان يقوله عالم آخر هو بيرس (1839-1914) من أن النشاط البشري بمجمله نشاط سيميائي.
وبطبيعة الحال فإن النشاط اللساني هو نشاط سيميائي لأنه جزء من النشاط البشري.

يقول بيرس عن نفسه: "إنني وحسب علمي الرائد أو بالأحرى أول من ارتاد هذا الموضوع المتمثل في تفسير وكشف ما سميته السيميوطيقا أي نظرية الطبيعة الجوهرية والأصناف الأساسية لأي  سيميوزيس محتمل.

إن هذه السيميوطيقا التي يطلق عليها في موضع آخر المنطق تعرض نفسها كنظرية للدلائل وهذا ما يربطها بمفهوم السيميوزيس الذي يعد على نحو دقيق الخاصية المكونة للدلائل".

أما مارتينيه فيعرفها قائلا : "السيميولوجيا: دراسة جميع السلوكيات والأنظمة التواصلية".
ونلحظ هنا بوضوح اختلاف العلماء في استعمال مصطلحين  يطلقان على هذا العلم: السيميوطيقا، والسيميولوجيا.

وهذا الاختلاف البراجماتي لا ينفي القرب الشديد بين المصطلحين، بل وترادفهما.
"فالسيميولوجيا إذن مرادفة للسيميوطيقا، وموضوعهما دراسة أنظمة العلامات أيا كان مصدرها لغويا أو سننيا أو مؤشريا".

فلم تعد ثمة أسباب أو مبررات تجعل أحد المصطلحين يحظى بالسيادة دون الآخر.
بينما يرى آخرون أنه يمكن تخصيص مصطلح السيميولوجيا بالتصور النظري، ومصطلح السيويوطيقا بالجانب الإجرائي التحليلي فتكون السيميولوجيا نظرية عامة والسيميوطيقا منهج تحليلي نقدي تطبيقي.

ولهذا يستخدم المصطلح الثاني في عنونة المؤلفات التطبيقية وممن فعل ذلك غريماس ووموبسان وميشيل وكوكيه.

فقد دعا دى سوسير إلى الاهتمام  بالعلامة  لمنطلقات لغوية وإلى ما سماه بعلم السيمولوجيا أو علم منظومات العلامات، من خلال مفهومه للغة بوصفها منظومة من العلامات تعبر عن فكر ما مع تركيز دائم على العلاقات التي تربط بين الوحدات والعناصر اللغوية.
كما قرر دي سوسير اعتباطية العلامة  اللغوية بينما تقول السيميائية باعتباطية العلامة مما يمنح الدوال مدلولات لا نهائية.

وهكذا تلتقي السيميائية واللسانيات في القول باعتباطية الدليل اللساني.
وإن رأى البعض أن هذه العلاقة ينبغي وصفها بأنها ضرورية وليست اعتباطية.

والدال هو تلك الصورة الصوتية ،والمدلول هو ما تثيره تلك الصورة في ذهن المتلقي.
وهكذا فقد تطورت السيميائية  في القرن  العشرين وأصبحت حقلاً  معرفياً مستقلاً، قرب المجالات المعرفية التي كانت متباعدة ومعزول بعضها عن بعضها وأعاد تماسكها.

وقد حاولت بعض الأقلام الحديثة العودة بمفهوم السيمياء إلى الأصل الذي انبثقت عنه ومن هؤلاء د. محمد صلاح الدين الكواكبى الذي ألف كتاب السيمياء الحديثة.

ولكن هذه المحاولات لم تفلح لأن مصطلح السيمياء كان قد اكتسب دلالة جديدة جعلته يخرج من سياق الكيميائية إلى سياق اللسانيات.

فأصبحت بذلك نشاطا فكريا يسعى إلى تعزيز مقولاته تعزيزا ألسنيا وإلى إنتاج معرفة جمالية تتخذ من الدرس اللساني دعامة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال