اللعبة اللغوية في مجموعة (قامةٌ تتلعثم) لعيد الحجيلي.. وحـدة الرؤية والرؤيا والرمزية والانزياح

مارس الشاعر في هذا الخطاب (اللعبة اللغوية) علـى صعيدي السياق والمفردة، كما فعل ذلك شعراء قصيدة الرؤيا ، فقد كان همُّ أغلبهم متجهاً إلى اللغة كما في قول على الجندي وهو يتخذ من سقوط قطري بن الفجاءة قناعاً له ، وهذا النص من مجموعة الحمّى الترابية:
في غدٍ يُقبل فجرُ السيلِ محمولاً على جانحِ كأسٍ
وتطيرُ اللحظاتُ الشُّقرُ في موكبِ عُرسٍ
وتعودُ الفتنةُ الصهباءُ نحوَ الليلِ في آثارِ شمسٍ
النجومُ البيضُ تجتازُ فيافي الشعرِ في ذُعرٍ
ولاتسألُ عن بحرِ القوافي
فلماذا اختارتِ الصبحَ وماتتْ في الفيافي؟
آهِ يا قنديليَ اللحميَّ يا بحريَ ياميتُ
من بين البحورِ السبعةِ ، ما طعمُ الضفافْ؟
وعلى هذا المنوال ينسج عيد الحجيلي المقطع التالي:
صاعداً
من رذاذِ التهاويمِ ، والأغنياتِ الكسيحةِ
قُلتُ لمن عبرتْ وجَلَ الذاكرهْ:
منذُ عشرينَ عاماً تولّتْ ملامحُ وجهيَ
إذ بزغَ الثلجُ في مقلتيّ
وفي شُرُفاتِ الرؤى
والدروبِ التي امتشقتْ نزوةَ الماءِ
والنارِ والجرأةِ الناعمة
ولكن ما يجمع بين الخطابين الأول والثاني: وحـدة الرؤية والرؤيا والرمزية والانزياح، وإن كان ذلك أوضح في الخطاب الثاني منه في الأول، من ذلـك مثلاً بعضُ ماورد في الخطابين: (نزوة الماء، أثثتْ لغتي، الحكمة اليابسة، هامة العطش، بركة الحكي، أغنية ذابلة، بيـاض الجنون، حشرجات الطريق، حليب قرمزي، ليل رضيع، هشيم الأمنيات، سرير الحروف، خيمة قلبي، شبق مغرور، نصل الحياة).
لقد نجح الشاعر فـي صياغة الخطابين صياغة فنية مميزة ، وشاعريته لاتحتاج إلى إثبات ، لكننا نجد أنه كان أكثر ثراء وغنى وتنوّعاً في خطابه الأول منه في الثاني . وسبب ذلك برأينا يعود إلى أن خطاب قصيدة الرؤيا الذي ينتمي إليه الخطاب الثاني للشاعر خطابٌ مسدود ، فهي أعني قصيدة الرؤيا أعلنت - كما أثبتنا ذلك في كتابنا (الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا ) الصادر في مطلعِ التسعينيات - الحدادَ على نفسها منذ العام 1961م ، وتحديداً بعد إصدار أدونيس مجموعته ( أغاني مهيار الدمشقي ) ، وماصدر منها بعد ذلك كان اجتراراً للبنية الفنية والصورة والدلالة والتشكيل الجمالي . وقد توصّلنا آنذاك إلىالنتيجة التالية : ( من خلال نظرة مجملة إلى الشعر في قصيدة الرؤيا وجدنا أنه وصل بعد سنوات قليلة من بدايته إلى طريق مسدود . والمشكلة التي يعاني منها والتي وُلدت معه هي مشكلة وعي لامشكلة تصوير . فهذا الشعر أثبت أنه قادر على استيعاب العناصر الفنية كافة لتجسيد مايريد إثارته . وقد استخدم كما أثبتنا ذلك في ثنايا البحث الكلمة والإيقاع والصورة والرمز والأسطورة والوحدة العضوية والإيحاء والتخييل وما إلى ذلك بنجاح كبير لبناء القصيدة / الرؤيا ، كما أستطاع أن يهضمَ المؤثّرات الثقافية التراثية والغربية بنجاح أيضاً من أجل التعبير عن الموضوعات المتكررة فيه . لكنه ظلَّ خلال فترة صعوده يعاني من مشكلة وعي . فالوعي الذاتي الذي لايعترف بالآخر وعيٌ مأزوم ، وعي غير متجدد بمعنى أنه سكوني ، والموضوعات الأساسية التي تشغله بشكل دائم هي ذاتها لاتتغير . ولهذا يجد من يقرأ الشعر في قصيدة الرؤيا أنه يعاني من أزمة التكرار ، تكرار الرؤى وتكرار المواقف واستحالة التخلّص من النظرة السابقة إلى الأشياء 386). وهذا ماحدث للخطاب الثاني في مجموعة عيد الحجيلي ، فقد كانت فضاءاته أكثر تنوعاً وغنى فـي الخطاب الأول منها في الخطاب الثاني / خطاب قصيدة الرؤيا.
خلاصة القول: عيـد الحجيلي في مجموعة ( قامة تتعلثم ) يكشف عن قامة شعرية ناضجة لوأنها وحّدت نفسها في خطابها الأول الذي تنتمي أصلاً إليه، وتجاوزت أوهام الخطاب الثاني (خطاب قصيدة الرؤيا) بكل إحباطاته الإيديولوجية والجمالية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال