تناغم الوعيين الوجودي والرومانسي في مجموعة (الصهيل نحو الدائرة) لعبدالرحمن بن معيض الغامدي

يستأثر المناخ الوجودي على حقل الرؤية في مجموعة عبدالرحمن الغامدي (الصهيل نحو الدائرة) الصادرة عام 1421هـ بجدة.

هذا المناخ الذي عبر عنه أحدُ أبطال مسرحية الذباب لسارتر بقولته الشهيرة (الجحيم هو الآخرون).
إن انعدام ثقة الفرد بالآخر في المجموعة، وكذلك بالعصر الحاضر هو الأساس الذي شكل الوعي الوجودي فيها.
ولعل هذا الوعي هو الذي كان يدفع الفرد إلى التكوّر داخل الذات، والإحساس العميق بالفراغ والعبث والضياع.
وأنينٌ خلّفتهُ الريحُ في قَفْرٍ سحيقْ
بين أصداءِ الذئابْ
تركتْهُ دونَ شكوى حيثُ لا يبكي السَّحابْ
تارةً يطفو على الموتِ
وتاراتٍ يعبثُ بالأرقامِ
في وجهِ السّكوتْ
يسألُ التُرْبَ حناناً يَتشهَّى ما يُسمّى بالإيابْ

ويعمّق الكاتب هذا الموقف من خلال صياغة الحالة الشعرية في السؤال التالي:
أين تعدو؟، أين تغدو؟
ودروبُ القومِ صارت كبرياءً في رياءٍ في رياءْ
لا تحاول، لا تكن صلباً فتُكسَرْ

لقد كان الموقف الوجودي قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها ينكفئ كلياً إلى الذات مما كان يولّد الشعور بالعدم لدى منظريه ومبدعيه، لكننا في مجموعة (الصهيل نحو الدائرة) نلاحظ أنه - إلى جانب انكفاء الفرد إلى الذات وتقوقعه فيها - كان يسعى للخروج، ولكن ليس إلى الآخر بهدف تصحيح العلاقة، وإنما إلى ذات أخرى أوسع يتصل من خلالها بعالم أرحب بعيد عن المجتمع.

وللاتقاء من السقوط بالعدمية يصرخ الكاتب بأعلى صوته ليؤكّد )جحود الآخرين) بقوله (لا تكن صلباً فتكسر).

فالفرد منسجم مع ذاته متوحدٌ فيها، ولكنه مقتنع ألا مصالحة مع المجتمع المعاصر، ولهذا السبب تتكرّر في المجموعة عبارة (لا تصالح)؛ لأن المصالحة تكون مع طرف يمكن أن يُوثَقَ به.

والواقع المعاصر وكذلك المجتمع (ومن ضمنهما الزمان والمكان) وُضعا خارج دائرة الثقة.
نريد أن نشير هنا إلى وجود تداخل بارز بين الوجودية والرومانسية في مناخ المجموعة.

فكلاهما يُعلن الحرب على الواقع، وكلاهما يعتقد أنه ضحية الواقع، وكلاهما يبدأ من الخارج إلى الذات، وكلاهما يركّز على الألم الذاتي ويسعى إلى المبالغة في تجسيده، لكن الوجودية تتقوقع داخل الذات ولا تخرج منها، بينما تخرج الرومانسية من الذات إلى الطبيعة.

إن الذات في مجموعة (الصهيل نحو الدائرة) هي مرحلة عبور إلى عالم أرحب.
فهي تلتقي مع الوجودية في انطوائها إلى الذات، وتلتقي مع الرومانسية في عبورها من الذات إلى الفضاء الواسع.
وقد نجحت الرؤية في الإعلان عن نفسها بوضوح ضمن هذه المعادلة.

إن الوعي الناتج من العلاقة بين المناخين الوجودي والرومانسي هو الذي ساهم بصياغة القيم الجمالية التي شكلّتها المجموعة، وصبغها بطابعه.

وينسحبُ ذلك على الصورة الفنية والتخييل الفني، وأخص هنا المعجم الشعري للمجموعة الذي جاءت مفرداته متناغمة مع هذا الوعي، وداعمة للمساحة الواسـعة التي منحتها المجموعة للتراجيدي ( أودية، ضياع، موتى، يباب، قيود، رمال، آهات، نواح، سراب، جراح، وجـع، همّ، شكوى، بكاء، قتل، هدم، دموع، نحيب، حزن، خوف، شقاء، سكون...).

ومما يؤكّد هذا المسـار في المجموعة إلحاحُ الكاتب - في حقل الرؤيا الوجهُ المقابل للرؤية - على ثلاثة موضوعات: أولها البحثُ عن الأمن والسـلام بعيداً عن الواقع والمجتمع:
 وغداً نودّعُ كلَّ أرديةِ الشتاءْ
كلَّ المراعي والحقولْ
وصهيلَ آهاتٍ النساءْ
لننامَ في جوفِ السماءْ
حيثُ السلامةُ والأمانْ
وفصولُ مأساةِ السلامْ
تُهدي لكاتِبها النُّواحَ، وقصاصةً فيها سؤالْ
هل أنتَ من ماءٍ وطينْ؟

وثانيها يتمثّل في الحنين إلى الماضي، لأنه مصدر الدفيء ووسيلة الخلاص من الواقع المتأزم:
قادمٌ من أرضِ يثربَ ابتغي تلكَ الديار
ابتغي تقبيلَ جدي بينَ ذرات التراب
قادمٌ لا شيء عندي غيرُ ذكرى ونهار
 ونجوم لم تزل تُهدي لجدي من أغانيها ضياء
فامنحوني بعضَ شيء علني أبكي المزار
وانظر كذلك (ص56) حيث يكرّر الكاتب مقولة البكاء ذاتها.

وثالث الموضوعات التي تشغل المجموعة يتمثل في الرفض الصريح للواقع المعاصر، والاحتجاج على ما يجري به والدعوة إلى الانكفاء إلى الذات:
أغلقي البابَ فإني لم أجدْ إلا التغنِّي
يمنحُ الخيمةَ دفئاً
بعدَ أن عِفْنَا العشيرهْ
ونَبذنا كلَّ ماضٍ وتعلّقنا بحاضرْ
آهِ ما أقسى الجحودْ (34)  
وتتكرّر الدلالة نفسها في (ص58) ضمن استجداء للمناخ الرومانسي.

ويؤكـد الكاتب خلاصة الرؤيا بالسؤال الكبير التالي:
فلماذا يُصبحُ الحلمُ حطاماً؟
 ولماذا ننحني
مثلَ انحناءاتٍ المكانْ؟

وعلى الرغم من أن الكاتب ما يزال في مرحلة البحث عن أدواته الفنية، ويبدو ضائعاً في أحايين كثيرة، لكنه نجح في تكوين علاقات تناص مميزة مع كل من: الحدث التاريخي، وشعر التفعيلة، والمثل الشعبي.

وهو يستعبير رسالة كليب إلى أخيه الزير سالم قبل موته (لاتصالح) التي يُؤكّد فيها عدم التهاون في الأخذ بثأره ممن قتلوه:
كلما يمّمتُ وجهي نحو بابلَ
جاءني ألفُ نذيرٍ ونذيرْ
عُدْ إلى الفرش الوثيرْ
لا تحاولْ، لا تصالحْ، لا تكنْ صلباً فتُكسرْ
وكذلك مع الشنفرى. أنظر (ص 27).

ونود الإشارة هنا أن الشاعر أمل دنقل استعار عبارة كليب (لاتصالح)، وبنى مجموعة شعرية كاملة على ذلك وأعطاها العنوان نفسه.

وقد كتبها بعد الصلح الذي وقع عام 1977م بين مصر وإسرائيل.
ومن التناص أيضاً قوله:
وأنا مصلوبٌ في همّي
لا شيءَ معي  إلا كلماتْ
كلماتٌ ليست كالكلماتْ

فقد استدعى الكاتب النصوص الأخرى ثم ذوّبها في مناخ الحالة التي سعى إلى رسمها.
وكل ذلك أعطى النصوص تنوعاً وغنى، وساهم في نقل المفهوم المجرّد في بعض الأحيان إلى قيمة مجسَّدة.

ولعل إلحاح الكاتب على السؤال في بناء الصورة الفنية أحياناً ساهم بدعم قيمة الصورة أنظر: (26)، و(64).

إن الفراغ والشعور بالانسحاق والاغتراب الذي يمارسه المجتمع على الفرد ساهم في دفع الفرد إلى البحث عن التوازن من خلال وسائل متعددة منها الذات، والطبيعة والفضاء الخارجي، ومنها أيضاً المرأة التي تُعتبر الملاذ الآمن وأساس اكتمال ذكورة الفرد كما تؤكد المجموعة.

فبقدرِ ما كانت الذات أحد المحاور التي بَنَتْ عليها قيمةُ الجميل، فإن المرأة هي المحورُ الثاني الذي ساهم برسم الطرف الآخر من تلك القيمة.

وباتحاد الذات (ذات الفرد) بالمرأة يكون الجميل قد تحقّق، واكتمل.
إن المرأة بالنسبة إلى الذات تحقيقٌ للحب المفقود في الواقع.
ويبدو الجميل أكثر جمالاً حين يضع نفسَه بقوة أمام (قيمة القبيح) التي يجسّدها المجتمعُ والواقع المعاصر.

في قمَّةِ الغروبِ، وحمرة الأصيلْ
أتيتِ يا بتول، تُزَيِّـنينَ بسمتي، وتَمسحينَ دمعتي
وتقتلينَ يا حبيبتي مرابعَ الفضولْ
في ذلك المساء
أيقنتُ ياصغيرتي بأنني بقاءْ
وأنني بنظرتِكِ أقاومُ الشقاءْ 
أتيتِ يا بتول، فمرحباً بطفلتي، ومرحباً بنشوتي
ومرحباً ومرحباً بجنّةِ الفصول (59)
وترِدُ هذه الدلالة أيضاً أيضاً في (ص61 و67).

لقد نجح الكاتب في التعبير عن نفسه في حقلي الرؤية والرؤيا، والتناص والمعجم الشعري، وكذلك في إبراز قيمة التراجيدي والجميل والقبيح، لكنه أحياناً - وربما بسبب الضغط النفسي للفرد والنـزق الذي يصاحب ذلك - كـان يقع ضحية للخطابية والمباشرة والتقريرية على نحو قوله:
لا شيءَ في الدنيا يُساوي بعضَ فقدِكَ ياصديقْ
لا هذه الأرضُ الزهيةُ حينَ ترفلُ بالنعيمْ
لا رحمةَ الأمطارِ حين تجيء في وقتِ الهجير
لا البحر يُظهرُ ما لديهِ من غموضْ
حتى البكاءْ
ما عـادَ ينفعُني البكاءْ
وكـذا النساءْ ، ما عدتُ أحتملُ النساءْ
وغدوتُ يا قَدَري صغيراً ملّ من طولِ البقاءْ

وعلى الرغم من وجود قلق في بناء الصورة الفنية أحياناً، وتباينٍ في أسلوب صياغة الشكل الجمالي لبعض النصوص، وكأننا أمام مدرستين مختلفتين، فإن (مجموعة الصهيل نحو الدائرة) لعبدالرحمن الغامدي نجحت في تقديم نصٍّ انسجمت فيه عناصر الرؤية والرؤيا، وعبّر بوضوح عن هموم جيله، ومشكلاتهم، وربما أيضاً عن تطلّعاتهم وآمالهم التي شكلّتها الرؤيا.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال