طقوس التصوف وأسطورة التكوين والرمزية في مجموعة (الجاهلي يُشْعِلُ خرائِطَهُ) لعبدالعزيز العجلان

يبني الشاعر عبدالعزيز العجلان الرؤيا في مجموعته (الجاهلي يُشعلُ خرائطَهُ) علـى عناصر أساسية هي المرأة، والحرية، والأمان، والفضاء الواسع.

ولايستطيع المتلقي أن يفصل بين هذه العناصر؛ فهي تبدو وحدةً متكاملة وتشـكّل مجتمعة طموح الشاعر في بناء عالم جميل بديل للعالم الفاسد الذي جسّده في الرؤية.

فحتى تكون المرأة جميلة تحتاج إلى الحرية، ولكي تنمو الحرية وتتسع تحتاج إلى الأمان . والعناصر الثلاثة تحتاج إلى فضاء واسع نقي تتحرك فيه. 

والعلاقة بالمرأة في النصوص ليست مجرّد علاقة عابرة، وإنما هي علاقة توحّد واندماج وتصوّف.
والمرأةُ هي الملاذ ومصدر الأمان والسلام والجمال، وهي - إلى جانب ذلك - مصدر الخصب والأنوثة، وكأن الشاعر يستوحي كل ذلك من خلال إنانا وعشتار وأفروديت وفينوس وعناة رمـوز الخصب في الحضارات القديمة.
يقول:
أفيءُ لأعتابِها مثلَما ترجِعُ الريحُ لأوكارِها في
المساءْ
ألوذُ بأحضانِها
بالحكايا الصغيرة زهوَ الدنوّ
أخرجُ منها لأدخلَ فيها ، وألقي بقلبي لينشرَ راياتِه في العراءْ
وحين أوينا إلى ظلِّها
تساقطَ شوكُ الظهيرةِ ما بيننَا
ترجّلَ من حولنِا ظلُّها
أقولُ المقامُ
يرتدُّ نحوي الصدى مرهَقاً
موجَعاً
يتلكأُ بين زوايا السكونْ
ترجّلْ
وشدَّ الجراحَ إلى قلبِها
فما بعدَ هذا الدنوّ ملاذٌ
وما بعدَ هذا المقامِ مقامٌ
وما خلفَ هذا اليباسِ الرخامي ماءْ (91)

ومما يقوي من رغبة الفرد في اللجوء إلى المرأة كمصدر للأمان إحساسُه بالخوف والاغتراب والوحدة الذي جسدته الرؤية.

فعلى الرغم من الفرح الذي يلازم الفرد ويدفعه إلى الانطلاق والاكتشاف في حقل الرؤيا هناك صوتٌ خفي ملوّن بالألم والحزن تعبّر عنه النصوص في حقل  الرؤية.

وقد جسّد الشاعر ذلك من خلال الخلفية التي رسمها للّوحات، هذه الخلفية غير ظاهـرة يحتاج من يريد أن يراها أو يحس بها أن يقترب منها ويحدّق في ألوانها كأنه أمام لوحةٍ تشكيلية.
يقول:
نقيضانِ ياآخرَ الغرباءِ اقتربْ
أما آن للقلبِ أن يترجلَ
وينسى الجماحَ الجوادُ التعِبْ؟ هنا تنفضُ الروحُ أوزارَها
ويسترحعُ الحزنُ ما قد وهبْ
هنا ستفيضُ الغيومُ السِّماحُ
على مهجعِ الصيفِ
وتمضي الحكايا الذواهلِ نحو المصبْ(83)

ويؤكّد الشاعر ذلك من خلال شعور الفرد بالوحدة والفراغ:
عابرٌ ينداحُ في خطوتهِ
فوقَ خفقِ الرملِ
في وحدتِهِ
ثمَّ يطويهِ الزبدْ
لاأحدْ، لاأحدْ، لاأحدْ (90)

ويوسّع الشاعر مأساة الفرد ليعمّمها على الشرق كلّه.
فصورة الشرق تبدو جافّة متصحرة، هزيلة:
وعندَ الهزيعِ الأخيرِ من الحزنِ يورقُ في قلبهِ
الشرقُ
تهصرُهُ الصبواتُ الظماءْ
يُلقي بكفّيهِ فوقَ الرمالِ
لاوردَ في الشرقِ
هذا الذي يُثقلُ الحزنُ أطرافَه كلَما عاودَتْه جراحُ
الشروقْ (55) 

وهو يؤكّد ذلك بقوله:
تجمعُنا الصدفةُ، ندنو
نصبحُ والأحلامُ على مرمى
يَكبرُ فينا الخوفُ
تتهيّأُ أشجارُ الماضي، ننأى
تنهبُنا خطواتُ الصيفْ(81)  

لكن على الرغم من كل الانكسارات فالفرد طموح ، ومما يعزّز رغبته في التحوّل والبناء جموحُه وانطلاقه وثقتُه بأناه.
وقد أكد الشاعرُ ذلك في تجسيد بعض الحالات من خلال التناص مع أسـطورة التكوين.

ففي البدء كانت الغربة، وفي الجرح كـان التغيير، وفي الرغبة كان التحدي، وفي الخطوة الأولى كان السمع والكلام.
والرؤيا عند الشاعر تُبنى على الإصرار لأنها لاتُمنح أو تُعطى، يقول:
في البدْء كان الجرحُ
والظمأُ الملحُّ
كان الكلامُ السمحُ
ينقشُ طيوفَهُ الملوّنةَ شواطئاً أليفةً
مراكباً وصبحْ (86)

وباعتبار أن المرأة في الأسطورة مصدر الخصوبة فهي الركن الأساسي في التكوين لدى الشاعر:
وامرأةٌ تصّاعدُ في هشيمِ العمرْ
إن أقبلتْ فغيمةٌ وارفةٌ
وإن نأت فريحٌ تلقي إلى الدروبِ بسمةً
كانت له الملاذَ والحضورَ والغيابَ والمدى
وكان في سمائِها صدىً ، وظلَّ طيفٍ عابرٍ
مرَّ بها ذاتَ صباحٍ أو مساءْ(88)

مما تقدم نلاحظ أن في المجموعة صوتين تتحرّك من خلالهما كافة عناصر النصوص والقيم الجمالية، صوتاً خفياً سلبياً يشدّ إلى الوراء، وآخر ظاهراً وإيجابياً.

الأول يمثّل جانب الرؤية وقد تمثّل في صورة الفرد المغترب الحزين الوحيد المجهَد، ومساحة هذا الصوت ضئيلة إذا ما قورنت بالصوت الثاني.

أما الصوت الآخر فهو الأقوى والأنقى والأكثر صفاء يتقدّمُ إلى الأمام ولديه مايبرّره: التوحّد الصوفي بالمرأة والقناعة بأن البدء أولُ التكوين.

وقد جاءت الصورة الفنية لتجسّد هذا التوجّه وتدعمهُ ، فأطرافها حسية تعتمد على المكان المرئي، وتتميّز باتّساع المكان لتنسجم وروح أسطورة التكوين، والحالة الصوفية، ويؤكـد ذلك تكرار الأفعال المضارعة التي تدلّ على استمرار الحركة والتحوّل والخصب.

والشاعر يُكثر من حروف الربط ، ويُنمّي الحدث إلى أن يصل إلى حالة التوهّج التي ينشـدها.
و(البحر والصبح والضوء) ثالوث التحوّل في المجموعة، يقول: 
يخرجُ البحرُ من صخَبِ البحرِ
ينسلُّ فوقَ الرمالِ البليلةِ
يلتمسُ الصبحَ يلقاهُ فـي منحنى الضوءِ
يمضيانِ معاً (79) 

وقد ساهم الاقتصاد في اللغة، والتشكيل الرمزي للصورة في قوّتها.
واختار فيما يلي بعض العبارات الرمزية لتأكيـد ذلك: (مشرعِاً وحدتَه، شجرُ الروح، انهمارُ الصباح، جمرُ الفتوّة، ارتعاشُ الأهلّة، دفءُ الحروف، طيوفٌ ملوّنة، مراكبٌ مختالة، شواطىءٌ أليفة، عناقيدُ ماء، زبدُ الضوء، أسورةٌ حائرة).

وحتى لانبتعد كثيراً فعناوين النصوص أيضاً تدلّ على ذلك، وهذا يعني أن هناك خطاً واضحاً في المجموعة يحرِّكها هو الخط الرمزي.

ولعل ماورد في العناوين انعكس أيضاً على العلاقات الرمزية في النصوص.
ومن العناوين: (نقوشٌ على مداخل الشتاء، من سِفْرِ العناقيد، في انتظارِ الكلمات، على ممرّ العيد، نِثارُ الأسئلة، اشتعالاتُ زهرةِ صيف، مقاطعٌ لصمتٍ عابر، سُدرَةُ البدء).
فهناك ثمانية عناوين من أصل 24 عنواناً عدد نصوص المجموعة.

وقد شكّل الشاعر من خلال الصورة بالمواصفات المذكورة النموذج البطولي، نموذج الفرد الجميل الذي يأتي ولا يأتي وهو الحاضر الغائب:
كيفَ لـي أن أراهُ؟
أيُّ الجهاتِ اصطفتْها خطاهُ
أيّ المداخلِ؟ أي الغييماتِ ترفأُ في دعةِ موعدَه؟
طالما أرهقَ الذاكرة
كلما أينعت زهرةُ الضوءِ وأرخى المساءُ ضفائرَهُ
تسوّرَ سحرُ السكونِ
تساقطَ حولَهُ العابرون
آدتهُ أحلامُه المجهدَة
وحينَ تؤبُّ الشمالُ
يُلقي بعينيهِ خلفَ المدى المترمّدِ
نحو الشمال
يهدلُ، تأخذهُ هزّةٌ
وينثرُ أشواقَه في مهبِّ السؤال (4)

الأسطرة، السؤال، اتساع المكان، الرمزية، الحسية، التكثيف، التنوّع في المفردات والحدث، كثافة الصور الجزئية، عناصـرُ أساسية كوّنت قوة (الشعرية) في هذا النص.

والشاعر يستخدم مفردات محددة تدل على التحول والرغبة في التغيير، وهي تنسجم وطموح الفرد العارم في التحول، ولعلها تشكّل أساس الوعي الذي تجسّده المجموعة، من ذلك: (العاصفة، المرأة، البحر، المطر، الريح، الفعل المضارع، آذار).

وفي أذار يُخرِجُ أدونيسُ عشتارَ مـن الحجيم ليبدأ فصل الربيـع حيـث الخصب والخضرة:
ياآذار، يا سادنَ سرِّ الأرضِ الأطهرِ
هل تذكرُ ذاتَ صباحٍ
ألقيتَ إلى الدنيا زنبقةً واجفةً ومضيت
هل تذكرُ يا آذار
يا حلمَ الأرضِ
إطراقةَ زنبقةٍ خجلى
ألقتْها كفّاكَ إلى الأرضِ ذات نهار(58)

ولعل بعض المفردات التي تشكّلُ عناوين النصوص تدل على ذلك التحول وتؤكّده، مثل: (الحضور، الدنو، النورس، الجموح، يُشعل، انبثاق، أبجدية، طائـر الجهات، نبضات).

تتكرر لدى الشاعر مفردات أخرى دالة، مثل (البدء، والرغبة، والمدى، والجرح، والرحيل).
يقول مؤكّداً طقوس التحوّل:
يؤبُّ المطر برفقٍ يدقُّ النوافذَ
يعتنقُ الرملَ والظمأ الموسمي
وبينَ المداخلِ ترتعشُ الخطواتُ
تلتمسُ القطراتُ العِذابُ برفقٍ تدقُّ النوافذَ
يستيقظُ القلبُ على وقعهنّ
يمضي لأحزانهِ النيّراتِ النوافرِ
والصدى ينكثُ اللحظات(6)

خلاصة الكلام:
إن عبدالعزيز العجلان شاعر مميّز، وقد استطاع أن يوحّد في مجموعته (الجاهلي يُشعِلُ خرائطهُ) بين الجمالي والفني، بين المجرد والحسي، بين المعنوي والمرئي ضمن طقوس متنوعة ساهمت في تكوينها عناصر التصوف وأسطورة التكوين والرمزية.

وهو لكلِّ ذلك شاعر مختلف عما هو مألوف، وتجربته تستحقّ الإشادة والتأمل.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال