حقل الرؤية في مجموعة (يا فدى ناظريك) لغازي القصيبي.. الواقع السياسي البائس. الفرد الخائف. بؤس الكلمة

تعتبر (الرؤيةُ) في الشعر البعدَ الأول للصورة الفنية، وتعتبر (الرؤيا) البعد الثاني الذي تسعى الصورةُ إلى استشرافه وتجسيده.

ولابد من التأكيد على تلازم البعدين من حيث المبدأ، وعلى تفاعلهما ضمن الصورة الفنية.
فالشاعر إما أن يرفض الواقع وإما أن يقبله، وإما أن يرفض بعضه ويقبل بعضه الآخر.

وهو في كل الأحوال يبحث عن البدائل.
ولابد أن يكون وراء وجود البدائل مثيرٌ واقعي.
والرؤيا تأتي عفويةً أو غير واضحة في بداية تجربة الشاعر الفنية، ثم تنتقل فيما بعد في أعماله أو في بعضها إلى رؤيا تكاد تكون مكتملة.
وهذا ما نفترض وجوده في مجموعة القصيبي.

تتشكّل (الرؤية) في نصوص (يافدى ناظريك) من مجموعةٍ من الأركان: أولها (الواقع السياسي البائس)، وثانيها: (الفرد الخائف، المأزوم، المغترب، المهزوم).

ولعل الواقع السياسي البائس يشكّل الأساس في قلق الفرد وأزمته، وليس الواقع الاجتماعي بمجمله، كما جرت العادة لدى كثير من الشعراء.

يقول الشاعر في ذكرى فاروق القصيبي :
أتشكو إلي الموتَ؟ أشكو نقيضَه -- حياةً تُريني  الموتَ  في مُرِّها عذبا
أُودِّعُ أحبـابي بظاهـرِ أدمعي -- وأكتبُ بالدمعِ الذي لايُرى الكُتبا
وأحمل أوجاعي وأوجـاعَ أمتي -- وأعرفُ أدوائي ولاأعرفُ الطِّبا
ويؤلمني مَرُّ السـنين كأنـها -- تشقُّ بأضلاعي إلى حتفها دربا

والملاحظة الأساسية أننا لانستطيع أن نعزل الشعار السياسي عن معظم نصوص المجموعة.
فالهاجس السياسي لدى الشاعر لم يكن خفيّاً، وإنما كان مباشراً، وأحياناً يأتي مُقْحَمَاً على النص كما في (نص الكرافته) التي أهداها الشاعر إلى حفيده غازي حيث يقول:
وجاءَ  يختالُ زهواً كالأمةِ العربية

سؤالي هنا: ما علاقة هذا الحفيد لكي يثقله الشاعرُ بهموم الأمة العربية؟ ومثلُ ذلك في قصيدة (ترنيمة لسلمان) حيث يُقحم الكاتبُ الشعار السياسي في نص جميل مـمّا أضعف من إمكاناته الفنية.

ويخلص الشاعر من خلال البؤس السياسي واغتراب الفرد إلى أن الواقع بعامة رديء، يقول صراحة فيه:
ما أفجعَ الدنيا إذا ما أصبحتْ -- فيها الحقيقةُ جثّـةً في مأتمِ

ونعتقد أن علوّ الخطاب السياسي أضعف الفني في المجموعة.
وأكثرُ ما يبدو ذلك في نص محمد الدرة (يا فدى ناظريك).
وهـذا النص يدخل ضمن ظاهرة ما سمّي (بشعر الحجارة).

لقد كتب نزار قباني، ومحمود درويش، وأدونيس، وسعدي يوسف، ويوسف الخطيب، وأحمد دحبور، وعصام ترشحاني، ومحمود علي سعيد، وعلي شمس الدين، وشوقي بغدادي، وفايز خضور وغيرهم كثيراً عـن أطفال الحجارة.

بل أصبح كثيرٌ منهم يفتتحُ بعضَ مجموعاته بنص من شعر الحجارة، وكأنه ورقة اعتراف يريد الشاعر أن يبرز انتماءه إليه.

ويمكن القول في هذا النوع من الشعر بعامة، وفيما كتبه القصيبي بخاصة في المجموعة أن هذا الشعر: (لا يرتقي إلى مستوى الحدث)، وهو (يتميّز بالمنبرية)، و(التسجيلية والمباشرة والشعاراتية)، و(الحماس المفتعل)، و( مما جعله ضعيفاً تداخل السياسي بالفني قسراً).

فأنا لاأجد مسوّغاً للتكرار في قصيدة (يا فدى ناظريك) التي كتبها الشاعر عن محمد الدرة.
فهناك ثمانية أبيات متتاية تبدأ بعبارة (يافدى ناظريك).

قد يكون هذا الشعور مسوّغاً لدى الشاعر وصادقاً وإنسانياً، ولكنه لم يصل إليّ كمتلقٍ لأنه افتقد إلى القدرة على التوصيل.
وظني أن التكرار وافتقاد (الشعرية)، ومايتعلّق بها من مباشرة وتسجيل وتقريرية أضعف من جانب التأثير والتوصيل.

وعلى الرغم مـن أن الشاعر سعى إلى التنويع في القافية والتركيب والجمل بقي النص ضعيفاً، يقول:
هدَراً مُتَّ يا صغيري محمدْ -- هدراً  عمرُكَ الصبيُّ تبدّدْ
يا فدى ناظريكَ كلُّ زعيمٍ -- حظُّهُ في الوغى أدانَ وندّدْ
يافدى ناظريكَ كلُّ جبانٍ -- راحَ ألفَ فرسـخٍ يتوعّد
يافدى ناظريكَ  كلُّ  بيانٍ -- بمعانـي هواننـا يتوقّد
يافدى  ناظريكَ كلُّ  يراعٍ -- صحفيٍّ على الجرائدِ عربدْ
يافدى ناظريكَ كلُّ  مذيعٍ -- في سكون الأثيرِ أرغى وازبدْ
قد فهمنا تهوّدَ  البعضُ  منّا -- أولمْ يبقَ معشـرٌ ما تهوّد

وبناء على هذا فأنا أُخرج ما سمّي بشعر الحجارة، وهو يدخل ضمن النثر الوجداني، أو البكائيات النثرية التي انطوت على شكل الشعر أو هيئته.

(أما ثالث أركان الرؤية) في المجموعة فتتمركز في (بؤس الكلمة) من خلال الوضع المزري الذي وصل إليه الشعر.

والشاعر ينعي الانحدار الذي أصاب الشعر العربي في العصر الحديث.
يقول الشـاعر في رثائه للجواهري (نلاحظ هنا استمرار هيمنة الهاجس السياسي):
أأبا الفراتِ سقتْ ثراكَ غمامةٌ -- تذرو عليه جواهراً وكواكبا
ماذا تركتَ ؟ عواصماً مقهورةً -- وزواحفـاً  مذعورةً وأرانبا

ويقول عن الشعر وما آل إليه:
أشكو إليكَ أبا القصيدِ قصائداً -- طرحتْ ملامحَها النبيلةَ جانبا
لم تأتِنـا عربيـةً  لتسـوغَها -- أذنُ الِخيامِ ولاتسـرُّ أجانبا
مِسخٌ هجينٌ ليسَ يُعرفُ أصلُهُ -- لافي الحصانِ ولاالحمارِ مناقبا
وطلاسـمٌ مفتونـةٌ برموزها -- تهمي عليكَ سناجباً وطحالبا
ما أبذأ الأشعارَ إن هي  نكّرت -- فتنكّرت ظلماً صراحاً ثاقبا

على الرغم من أننا لسنا في موقع الرد، لكن التـُّهم التي سردها الشاعر لاتَصدُقُ على كل النتاج الحديث، وظني أن الشاعر يعرف ذلك جيداً.

فالزمن اختلف والحضارة تغيّرت، ولكل عصر خصوصيته.
وكما يوجد شعراء مميزون على مرّ عصور الشعر العربي القديمة يوجد كذلك شعراء مميزون في العصر الحديث.

ومن الخطأ أن نقيس جمال الشعر أو قبحه بقدر قربه من النموذج العمودي أو بعده عنه. 
(ورابع أركان الرؤية) فقـدان الفحولة.
والفحولة هنا رمزٌ للشرف والأرض والعِرض.

يقول الشاعر في نص الفياغرا:
يا سيدّي المخترع العظيم
هذا رجاءُ شاعرٍ
ينوحُ
لاعلى شبابِ سيفهِ
لكن على أمتهِ القتيلهْ
يا سيدي المخترع العظيم
يا من صنعتَ بلسماً
قضى على مواجعِ الكهولة
وأيقظَ الفحولة
أمَا لديك بسلمٌ
يُعيدُ في أمتنا الرجولهْ

ولكي يُكمـل الشاعر (لوحة الرؤية)، ويثبّتها، ويعمّقها بأبعاد حسية مشخّصة قام - في الركن الخامس للرؤية - بتصميم خلفية حسية تتحرك جميع عناصرها فيها، وهذا مما يُحمَد للمجموعة، ويؤكّد نضجها فنياً وجمالياً.

وقد كان لبيروت / المكان هذا الموقع، حيث تتجلّى فيها أبشع الصور التي انطوت عليها الرؤية.
ففيها يجتمع السقوط السياسي بالتفكك الاجتماعي بالانهيار الثقافي والفني معاً، يقول:
آهِ بيروت ما لوجهكِ  يبدو -- مثلَ وجهي مبرقعاً بالذبولِ؟
أتمشّى بينَ الخرائبِ وحدي -- أهُنـا  كان مرتعي ومقيلي؟
آهِ بيـروت ودّعيني فإنـي -- ضِقتُ ذرعاً بوقفتي في الطلولِ
ستعودينَ  أنتِ بنتاً ولكـن -- عودتي للصبا سرابُ أصيلِ

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال