وطنُ الرسالةِ، والطهارةِ، والسَّنا ما اجملَكْ
وسكنتني، وسكبتَ حسنَكَ في عروقي في مدادي قبل أن أتنفّسَكْ
أن يستكينَ هواكَ بي
أن أسكنكْ
وطني
هذا هو الحامل الدلالي الذي انطلقت منـه مجموعة (وطني غنيتُ لك) لمحمد العطوي. إن حبُّ الوطن واجـب على الشاعر وغير الشاعر، والوطن عزيز، وجزء من الذات، وهو هويّتها، ومصـدر الأمان للفرد والمجتمع .
وقد قال الشاعر العربي قديماً:
بلادي وإن جارتْ عليّ عزيزةٌ -- وأهلي وإن ضنّوا علي كرامُ
وكل ماورد في المجموعة من دلالات جميلٌ، ويعبّر عن مشاعر إنسانية خالصة، ولكن ذلك وحده لايجعـل من الكتابة شعراً إلا بالتزامها بالحد الأدنى من أسس هذا الفن.
وأبرز ما يُلاحظ على المجموعة من القراءة الأولى أن المساحة التي تفصل بين الرؤية والرؤيا تكاد تكون معدومة.
فأغلب الشعراء يجسدون عادة (قيمة القبيح) في حقل الرؤية وينطلقون في بناء (التراجيدي) على مستوى الفرد والمجتمع من ذلك، وهم في (حقل الرؤيا) يستشرفون البدائل الموضوعية.
ويُحمل ذلـك على قيم (الجميل) و(البطولي)، و (الجليل)، و(الرفيع)، و(السامي) وما يتفرّع عنها.
في مجموعة العطوي وحّد الكاتب بين الرؤية ل دلالي واحد، فلا نستطيع - في أغلب الأحيان - أن نميّز بينهما.
ولهذا دلالة تعني أن الكاتب حيادي مع كل الأشياء المحيطة به، أو كأنه منحاز سلفاً للرؤية، أو أنه لايرى فيها ما يستحق النقد.
ونحن نردّ ذلك إلـى ثلاثة أسباب:
أولها أن عبّر الشاعر عن تصوّرات جاهزة في ذهنه، فمصدرُ الشَّحْنِ العاطفي لديه ذهني وليس نفسياً.
وثاني الأمور أن أغلب نصوص المجموعة، نصوص مناسبات.
ومن ذلك نصوصه التالية: (أربعة نصوص بمناسبة تخرج دورات مكافحة الحرائق والإنقاذ في مدينة الشاعر، في وداع الشاعر حسن الهنداوي، بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة المخدرات، بمناسبة جائزة تبوك الزراعية، في افتتاح النادي الأدبي بتبوك، بمناسبة تعيين الدكتور موسى العبيدان عميداً لكلية المعلمين، في وداع المهندس محمد الشايع، بمناسبة صدور مجموعة جديدة للشاعر صالح العمري، بمناسبة استقلال باكستان والهند، إلى صديقي الذي وعدني بإنجاز مكتب ولم يفعل، إلى محمـد المفرجي بمناسبة عودته من الخارج بعد رحلة علاج، بمناسبة زيارة رؤساء الأندية لمدينة تبوك 1418هـ).
وهكذا تسير بقية النصوص . والسبب الثالث يتعلّق بالأنا التي تكاد تختفي من المجموعة.
وقد بنى الكاتب (الرؤيا) التي هي لصيقةٌ (بالرؤية) على دلالات متنوعة لو اجتمعت لكوّنت معاً صورة الحلم البديل الذي يحلم به الشاعر ونحن نشاركه به.
فهي تتكون من الأرض الجميلة، حيث يبدأ بتبوك كإطار حسّي لبقية عناصر الرؤيا ليوّسع حبه للوطن كله، ومن النماذج الإنسانية الجميلة التي سعى الكاتب لتقديمها (نصوص المديح كافة وهي كثيرة جداً)، يُضاف إليها أنماد العلاقات الإنسانية والمشاعر الطيبة ونقاء الفكر والأمن والإيمان.
يقول في تبوك وهو يجمع بين معظم السمات السابقة:
تفتّقَ الزهرُ حسناً في مغانيها -- والعيـدُ أرّجَ أفراحاً أماسيها
فمِنْ أقاحٍ بروضٍ مائجٍ عبِقٍ -- لمجلسٍ ماج َ من حسنٍ به تيها
أتى الربيعُ وعاد العيدُ فأتلقتْ -- مدينةٌ ارّقـتْ عشقاً أهاليها
تبوكُ والأمن والإيمانُ حاضرُها -- موثّقٌ في عُرى الأمجادِ ماضيها
ولكن المشكلة أن الكاتب قدّم كافة عناصر الرؤيا - التي تبدو من الناحية الذهنية جميلة وهي حقاً كذلك لأنها في الوطن وعنه - ضمن مجموعة من الآليات المجرّدة . صحيح أنه نثر بعض الصور الفنية هنا وهناك ولكنها تأتي علـى الأغلب مجترّة من نصوص قديمة والتناص فيها ضعيف ، ولا أهمية له من الناحية الجمالية.
ومن الملاحظات التي تؤخذ على البنية الفنية في المجموعة غياب الانزياح واستخدام الدلالة المعجمية للمفردة التي أدّت إلى المباشرة والتقريرية، وهما عدوّان لدودان لشعرية الشعر .
يقول في وداع الشاعر حسين هنداوي:
أبا المؤيدِ إنّـا والرحيلُ غداً -- على فراقِكَ نبدي الحزنَ والأسفا
ويقول في افتتاح نادي تبوك الأدبي:
سلامٌ أيها النادي المفدّى -- أرقُّ من النسيمِ على المغاني
ويقول بمناسبة تعيين الدكتور موسى العبيدان عميداً لكلية المعلمين بتبوك:
فيا دوحةَ التعليمِ ياقلعةَ المنى -- ليهنكَ أستاذ البلاغةِ والنقد
ولعل انضواء جميع النصوص تحت سقف المناسبة رفع من علو صوت الخطاب وصبغ أغلب النصوص بالذهنية، وضعف التخييل الفني.
وكل هذا أدّى منطقياً إلى غياب النماذج الفنية، ومن ثم غياب التعميم الفني وهما بدورهما أفقدا النصوص قـوّة التأثير والتوصيل.
أعني أن المتلقي كان يتلقى الدلالة ذهنياً وليس عبر النموذج الفني المجسّد من خلال الصورة الفنية الحية.
كما تتضمن المجموعة إلى جانب ماتقدّم كثيراً من النصائح والوعظ ، كقوله :
فهبّوا يا شبابَ تبوك امضوا -- بعزمٍ لايشيخُ على الزمانِ
وأسبابُ النجاحِ مُذللاتٌ -- فروموها ولاتقفوا لشانِ
فبالإقدامِ يُعرَفُ كُلُّ شبْلٍ -- ومغوارُ الرجالِ من الجبانِ
وقوله:
ماخابَ من جعلَ العُلا مسعاهُ -- وأطالَ نحـو بلوغهِ مسراهُ
وتتضمّن المجموعة رسائل شكر كثيرة على شاكلة قوله:
فشكراً للنوادي حيثُ أهدت -- إلينا عطرَها فزكى وفاحَـا
والشاعر ينطلق فـي كل هـذا من تعريفه الخاص للشعر الذي يصوغه على النحو التالي:
وما أمُّ اللغاتِ بها قصـورٌ -- ولكـن تعشقُ البومُ النياحا
وهذا جاهلٌ بالشعرِ أضحى -- يزيدُ جراحَنا الأولى جراحا
إذا ماكـان للشـعرِ انفجارٌ -- ووقـعٌ إن تورّى أو أباحا
وموسيقى وهمسٌ وانعتاقٌ -- يمنّي النفسَ آفاقـاً فِسَاحا
فقل لدعيّهِ الموهومِ مهـلاً -- وسمِّ هراءَه الواهـي نُباحا
جهابـذةَ النوادي النيّرات -- بعونِ اللهِ لن نلقي السلاحا
ومن خلال هذا المفهوم تتعاطى المجموعة مع البناء العمودي.
وهو يبدو من خلال الاستخدام المفرط لياءات النداء
يا واحةً من أتاها ليس يبرحُها -- إلا وقـد عَلُقت آمالهُ فيها
والمضمون التقليدي للصورة:
كأن رجالَها أسدٌ تنادتْ -- يلبـُّون الوقيعةَ والنِّطاحا
وانظر كذلك مطلع قصيدة (مرحباً بالزائرين)، ومن ذلك أيضاً اجترار المفردات التقليدية، مثل: (الذمار، أخا الماء، صقور، الهمام، ساجعة الحمام، أزجي، الضرام، القتام، الخيام، الحادي، سحائب الجود، جهابذة، تخالها، الخزامى، الأقاحي)، ويقول:
ودّع تبوكَ فحادي الركبِ قد هتفا -- يامن بحبِّ تبـوكُ الورد قـد شغفا
وربّ حادثـةٍ تنبيكَ عـن ثقـةٍ -- أن السحابَ عن الواحاتِ قد صدفا
أو قوله:
سلِ الأيامَ عن بطلٍ همامِ -- رسولٍ للإغاثةٍ والسلامِ
ومن ذلك أيضاً التناص المفتعل مع الشعر القديم:
بادلْ محبي قربكَ الأشواقا -- إن كنتَ أزمعتَ المساءَ فراقا
والشاعر يستخدم نفس الزاوية التي بنى عليها عنترة موقف الفراق:
إن كنتِ ازمعتِ الرحيلَ فإنما -- زُمّت ركابكمُ بليلٍ مظلمِ
ومن قول الشاعر أيضاً:
لأنتم خيرُ من كادَ الأعادي -- ونافحَ دونَ عصمتها ولاحى
وهو كقول الشاعر القديم:
لأنتم خيرُ من ركبَ المطايا -- وأندى العالمينَ بطونَ راحِ
وأيضاً زاوية استخدام الشاعر لنمط البنى الفنية التي كانت تستخدم في الشعر القديم، كقوله:
فإذا حللتَ مـن اليمامةِ منزلاً -- وحوتكَ حُباً صادقا ً مغداقا
فابعثْ لنا عذبَ السلامِ تسوقُهُ -- ريحُ الصبا مسترسلاً رقراقا
خلاصة القول:
يبقى للوطن نكهته وجماله وروعته، والشعر إن لم يرتقِ إلى عظمة الوطن يفقدُ مصداقيته دلالة وفناً.
وظني أن مجموعة الشـاعر العطوي نحَت هذا المنحى .
التسميات
دراسات روائية