الأفكار العظيمة لا تصنع شعراً عظيماًً في مجموعة (أيها الطفل تدلّل) لمنال العتيبي

تؤكد نصوص منال العتيبي في مجموعتها الشعرية "أيها الطفل تدلل" - من خلال حقل الرؤية - على اغتراب الفرد المعاصر، وشعوره بالوحدة والضياع والسقم، والإحباط:
روحي
متعبةٌ جداً
يا روحي
الأنة والآه
تخرج من روحي

ويكبر هـذا الشعور ويزداد قسوة علـى الفرد حين يتحول إلـى حالة اجتماعية عامة:
لاأدري كيف؟
مازلنا نأكلُ
ولم نفقدْ تلك الخاصيّة
فقدْنا الأمل
فقدنا الحلم
فقدنا الأمنية
فقدنا مجردَّ التصورَ
أن تكونَ لنا
هوية

أما الخلاص فلا تجده الكاتبة - ضمن حقل الرؤيا - إلا في العودة إلى الإيمان بالله .
هـذا الإيمان هو الذي يساعد الفرد على التوازن الروحي ويخلّصه من التمزّق والضياع، وهو الملجأ الأمين لكل من يعاني من الاغتراب والقهر، وهو السبيل الصحيح لتأكيد العدالة الاجتماعية:
أنقذني يا ربي
يا ربي أنقذني
فكَّ أسري / وانزعْ عني أغلالي
أطلقني من هذا القهر / من هذا الظلم
من هذا الحبسِ الأبدي
ارفع عني أحمالي

ومن الأمور التي تؤكدها النصوص أيضاً - ضمن الرؤيا - التحدي وعدم الاستسلام أورفع الراية البيضاء.

وقد أظهرت النصوص مفهومَ الجميل (لا قيمة الجميل) من خلال الطرح الذهني، وليس من خلال الصورة الفنية.

فركّزت على التواصل الاجتماعي، والحب الإنساني ودفء الأسرة والتواصل، وأكدت ذلك مفردات، مثل: (الحنان والحنو والشفقة والرحمة).

وقد بدا مفهوم القبيح موازياً لمفهوم الجميل ، وذلك من خلال الظلم الاجتماعي، والسعي إلى إلغاء الآخر.
وقد أخذ مفهوم التراجيدي في المجموعة حيّزاً كبيراً من خلال تركيز النصوص على أزمة الفرد والمجتمع معاً.
وكان مصدرُه (قتلَ الجميل)، و(انكسار الحلم)، و(الصدمة) التي تتولّد من الصراع بين الفرد والمجتمع.

وعلى الرغم من أن (الرؤية والرؤيا) في المجموعة كانتا واضحتين، وانعكس ذلك إيجاباً على المفاهيم الجمالية - وهذه ميزة تُحسب لصالح العمل على الأقل من الناحية النظرية - إلا أن الشكل الجمالي الذي قُدّمت من خلاله جاء ضعيفاً.

وقد بدا هذا الضعفُ من خلال المباشرة والتقريرية والاستخدام المجاني للألفاظ والتراكيب، وتكرار المفردة والتركيب والمعنى.
من ذلك مثلاً:
لا يكن ردُّكَ رداً
لا يكنْ أسلوبُك طرداً
لا يكنْ إهانة
لا يكنْ ضرباً بحائط
لا يكن تسفيهاً
لا يكن استضعافاً
لا يكن استخفافاً
لا يكن زجراً
أنا أقدِرُ
أن أردَّ الصاعَ بصاع

وتقول الكاتبة ضمن هذا المضمار:
باقة ورد أنت
باقة عطر أنت
باقة حب أنت
باقة فل
باقة مسك
باقة عنبر
أنت أجمل باقة في هذا البستان

وفي نص (إرضاء الناس) تتكرر الأداة (لو) سبع عشرة مرّة.
وفي نص (لا تكن لايكن) تتكرّر عبارة (لا تكن) عشرين مرّة دون أدنى مسوغ فني. تقول:
لاتكن فظاً غليظاً
لا تكن قاسياً
لا تكن بلا قلب
لا تكن أسداً في غابة
لاتكن حجراً صلباً
لا تكن صدى
لاتكن رفضاً
لا تكن كلماتك كفّ ضرب

وهكذا تجري النصوص على هذا المنوال.
وكان يمكن أن يبدأ النص بعبارة (لا يكن) مرّة واحدة ثم توضع بعدها بقية عناصر النص بحيث يتم الربط بين المفردات والجمل المتتالية بحروف العطف، فهذا يمكن أن يخلّص النص من قسوة التكرار.

ومن تكرار المعنى واللفظ معاً:
أيها الطفلُ تدلَّل
أيها الطفلُ
أخرجْ من عالمِكَ الجميلِ الرّحب
من عالمِ حبٍّ وحنانٍ وحنوٍّ وشفقةٍ ورحمة
والسؤال هنا: ألا يتضمن الحب معاني الحنان والحنو والشفقة والرحمة؟

ومن ذلك أيضاً:
يوم الوقفةِ استقبالاً
لذلك القادمِ
ذلك الشيءِ الصغيرِ البريءِ الجميلِ الفضِّ الطريِّ الناعمِ
الإلفِ المألوف

ألا يتضمن لفظ (الجميل) مفردات الغض والطري والناعم؟
وما الفرق بين الغض والطري؟
ثم ما أهمية هذا التكرار في هذا الموقع من الناحية الجمالية؟

إن الأصل في الشعر بعامة (وقصيدة النثر) بخاصة التكثيف والاقتصاد الشديد في اللغة.
وينبغي دائماً أن تكون اللوحةُ غير ناجزة، لكي لا تُصادر على المتلقي متعةَ المشاركة في تشكيلها؛ أعني أن تترك مجالاً للمتلقي لكـي يُعيد إنتاج النص على طريقته الخاصّة.

إن الشعر حين يقع تحت هيمنة الشرح المدرسي تبطُلُ فاعليتُه، ولعل من أصول النمذجة في الشعر (التكثيف) و(الغموض الفني) و(الحسية والتشخيص والابتعاد عن التكرار).

وكل ذلك يسمح للمتلقي أن يشارك المبدع في كتابة النص من خلال إسقاط الحالة المتجسّدة عليه.
فلو أُدخل النصُّ في التكرار والتفاصيل غير الموظفة والمباشرة والتقريرية ستظل الحالة الشعرية خاصةً بكاتبها لا تتعداه.
وستفتقد إلى (التعميم الفني) الذي هو أمرٌ لازبٌ في العمل الإبداعي، وهـدفٌ من أهداف الفن. 

ومما أثقلَ عبءَ (الشكل الجمالي) - إلى جانب ما تقدم - السيولةُ اللفظية التي تتمتع بها جميعُ نصوص المجموعة دون استثناء.
من ذلك مثلاً:
كفاني كفاني كفاني
مارأيتُ وما سمعتُ
وما شعرتُ وما قاسيتُ وما عانيتُ 
كفاني ألماً
كفاني حزناً

كما يُلاحظ أيضاً ضعف الجملة الشعرية، فلو قرأناها لانقع على شيء:
لا تقولي مسكينة
مسكينةٌ أنتِ 
لأنك لا تعرفينَ معنى الكلمة
لا تقولي مسكينة
مسكينةٌ أنتِ، لأنك لا تشعرينَ
بهذهِ الكلمة

وفوق كل هذا وذاك معاناةُ المجموعة من (تراكم الصفات والأسماء) دون مسوّغ فني أو جمالي كقولها:
وأخيراً بعد عناءٍ طويل
وجهدٍ جهيد، وهمٍّ وسُقم
وحزن وألم، وضياع قلب
وقتل حب، وإنهاكِ مشاعر
استسلمتُ، ورفعت الرايةَ البيضاء
سأكون المقاتلَ الفذَّ
البطلَ الصنديد، سيّدَ المعارك، فارسَ الفوارس
البطلَ الأيوبي، ملكَ حطين، صلاح الدين
فاتحَ القدس
ولن أرفعَ لك الرايةَ البيضاء

إن الفكرة التي  يطرحها هذا النص عظيمة لكن الأفكار العظيمة لا تصنع شعراً عظيماًً.
فقد تكون الفكرة عاديةً وبسيطة ومجتزأة من الحياة اليومية فيجعلها الشعرُ عظيمة من خلال وضعها في سياق جمالي مميّز، وقد تكون الفكرةُ عظيمة لكنها تصبح ضعيفة حين توضع في سياق نثري مباشر.
ولو كانت الأفكار العظمية تصنع شعراً عظيماً لكان شعر الانتفاضة هو أعظم الشعر.

إن التكرار والاستخدام المجاني للمفردات والتراكيب والتراكم والسيولة اللفظية جعل مجموعة (أيها الطفل تدلل) تعتمد على التعبير لا التصوير، وجعلها أيضاً تفتقر إلى الخصوصية والتفرد اللتين هما سمتان لازبتان في الشعر، إلى جانب فقر التخييل الفني واقتراب المجموعة مـن (النثرية).

ولعل قارئ المجموعة سيراوده الشعورُ بالملل والضجر منذ قراءته للنص الأول.
وسيكتشف أن أثر النص الذي يقرؤه ينتهي بانتهاء الأسطر الأولى منه.

إن مجموعة (أيها الطفل تدلل) مجموعـة تورِدُ معاني جميلةً لكنها جاءت باهتة دون ألوان، وتبدو كأنها مستهلكة، بل مستهلكة جداً، فخاطبت الذهن ولم تخاطب الإحساس.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال