الجحيم هو الأخرون في مجموعة (تراتيل الروح في زمن الغربة) لاعتدال الذكر الله

تُعلن الكاتبة اعتدال الذكر الله في مجموعتها (تراتيل الروح في زمن الغربة) هويتها وانتماءها منذ النص الأول:
الهمُّ والحزنُ والآهاتُ تعرفُني -- والضيقُ والعُسرُ والأنّاتُ والألـمُ
أسائلُ الليلَ هل يُصغي لمظلمتي -- أهلْ يعـودُ زمانٌ كلُّهُ نِعَمُ؟

ينطلق هذا النص من المقارنة بين الحاضر القبيح والماضي الجميل.
ومن خلال ذلك تؤسّـس الكاتبة موقفها في بناء الرؤية، والرؤيا.

ويصل الشعور المحبَط لدى الكاتبة إلى (العدمية)، أو بمعنى أدقّ إلى (العبثية)، فهي لم تعد تثقُ بأحد ، بل لم يعد يعنيها أحـدٌ.

وهي لذلك تتمنى أن تتخطّى مرحلة الشباب (على الرغم مما لهذه المرحلة من تألق وروعة)؛ لأنها أصبحت تشـكّل عبئاً ثقيلاً عليها، فلعلّ في الشيخوخة خلاصاً لها من بعض القيود:
شـبابي لا أرى فيهِ سرورا -- بشيبي ربما  تزهـو مُنايا
فتحلو عنـدَها أيامُ دهري -- وتحلو عنـدَها كلُّ المنايا
هنيئاً لي بشيبي لا شبابي -- ويا أهلاً فخذْ مني صبايا

ولايتوقف الشعور بالانسحاق والعدمية عند هذا الحـد بل تندفع الكاتبة - بسبب ذلك - إلى رفض أسمى ما يتميّز به الإنسان ويحقق مـن خلاله إنسانيته، فترفض الحب، ولكنها تسوّغ ذلك بالحبيب القبيح، وهذا ينسجم ورفضها لمرحلة الشباب وترحيبها بالشيخوخة:
نبّهتُ قلبي في زمانٍ قد مضى -- إياكَ أن تهوى فتلكَ وصيتي
لاقرّتِ العينانِ ممن عـادني -- غنَّى عذابي في ليالي محنتي

وتعمّق الكاتبة هـذا الإحساس من خلال استعذابها للألم، فهي تتغزل به وتستمع إذ تكرّره؛ فهناك نصوص كثيرة تجري على هذا النحو وتؤكّد عمقَ الشعور (المازوخي) الذي يُلازم الفرد.

فالألم - في إطار هذا المفهوم - ليس للشكوى وإنما للمتعة.
وقد كانت الكاتبةُ تمزجه غالباً بالطبيعة فتعطيه إطاراً حسياً وتشخّصه وتجعله مؤنسناً يبعثُ اللذة والراحة.

إن وجود الفرد ضمن السياق المذكور يجعله  بعيداً عن الأثر السيء للمجتمع، وكل ذلك يؤكد (لاجدلية الأنا والآخر) بل (صراع الأنا والأخر)، من ذلك مثلاً:
فيـا قلبي ألا  فانـزفْ دمـاءً -- ويـا عيني ألا فأبكي ونوحي
على ظلمي على بؤسي وعجزي -- ودمعـاً دافئاً صُبّي ونوحي

وقولها أيضاً:
أيهـا البلبلُ  غرّدْ -- واطرِبِ الروحَ الحزينهْ
أيهـا البلبلُ  ردّدْ -- لحنَ آلامي الدفينهْ

ويؤكد استعذابَ الألم المعجمُ الشعري الذي يأتي على النحو التالي (الكآبة، الأوجاع، الألم، القلق، الليل، الأرق، الغرق، العذاب، الآهات، الصراخ، الدجى، القسوة، الفسق، الفاجعة، الحزن، الكهف، الحيرة، المصائب، الوحدة...).
وقد ساهم كل ذلك ببناء خلفية سوداء لمعظم الحالات المجسّدة في المجموعة.

إن استعذاب الألم، وتمجيده، والكم الهائل من مفردات المعجم الشعري المشتقة من اليباب والعقم والألم تساهم معاً في تجسيد (قيمة التراجيدي) التي تعكس الواقع المأساوي الذي يعيشه الفرد المعاصر، هذا الواقع هو الذي دفعه إلى الشعور بالعدمية والعبث.

ويمكن التأكيد هنا أن معظم النصوص هي عبارة عن تراتيل للحزن والألم والجفوة.
وكأني بالكاتبة تنطلق هنا من المقولة الشهيرة لبطل مسرحية الذباب لسارتر (الجحيم هو الآخرون).

ونستطيع التأكيد أن الكاتبة استطاعت أن تنمذجَ هـذه الحالة وتعمّمها على الأقل من الناحية الوجدانية.

ولكي تكمل الكاتبة النصفَ الآخر من (الرؤية) فقد شكّلت (الرؤيا) من القيم المفقودة في الرؤية.
ومن أبرز هذه القيم اللجوءُ إلى الله:
أمَـا مـن مخبرٍ عنّي؟ -- وعن أوجاعي هلْ يُنبي؟
ولكـنْ  قوتي ربـي -- وتقوى خالقي حسبي

وكذلك الكرم والعزة والمجد والعودة إلى الماضي، والتشبث بزمن الطفولة؛ فهناك خمسة نصوص للأطفال.
والتركيز على الطفولة هنا ما هو إلاتعويض عن القبح المتجذّر في الواقع.
يا مهجةَ الروحِ  يا نورَ المقلْ -- يا فرحةَ العمرِ يا نبعَ الأملْ
حوراءُ أنـتِ المنـى والمبتغى -- يا شمعةَ النورِ في ليلي الثّملْ

وقد فَسحت الكاتبةُ للقيم المذكورة مساحةً في المكان لتثبّت أطراف المشهد ولتجعله أكثر تأثيراً وفاعلية.
فالقيم المذكورة تُكمل صورتها من خلال تموضعها في الطبيعة.
هبَّ النسيمُ  السَّجْسَجيُّ  المرتجى -- فانزاحَ همٌّ مـن  علينا واندثرْ
ما أعذبَ الينبوعَ في وقت السحر -- والتين والليمون من أشهى الثمر
أنظرْ إلـى الدُّنيا بألحـانِ الهوى -- غنّتْ لنا حين التقى البحرُ القمَرْ

والكاتبة اعتمدت أيضاً على مجموعة من الثنائيات لبلورة الرؤيا وتعميقها، فهي دائمة المقارنة بين الحاضر والماضي، بين اليباب والخصب، بين الطفولة والشيخوخة، بين الذُّل والعزّة، بين المجتمع القبيح والطبيعة الجميلة، بين الفرد النقي المعذّب والمجتمع الملوّث الظالم.

وحتى تجعل الصورة أكثر وضوحاً فقد أكّدت (القبيحَ) في مجموعة من المفردات أبرزها (الغدر، والضيق، والألم، والظلم، والعذاب، والهم...).
سئمتُ ليالي  غدرٍ قد طوتني -- فقادتـني مخيّلتـي ببـابي
تلاشى زهـرُ قلبي في صبايا -- فيا ويحي تلاشى كالضبابِ
فواهٍ مـن ليـالٍ قد سقتني -- هموماً كدّرتْ أحلى شرابي

وقد نجحت الكاتبة في إسقاط بعض الحالات الذاتية على سبيل التناص على المستوى النفسي فحسب، ولكنها لم تنجح في صياغة شكل متفرّد ينسجم والحالة والجديدة:
قفا نحكِ عن بلوى سقيمٍ مكلكلِ -- بعشقِ الهوى بين النحولِ ومُعولِ
فيالكَ مـن  دهـرٍ كأن همومَه -- بكلِّ صنوفِ الظلمِ شّدّت بأحبلِ

وقد كانت أحياناً تستخدم صيغة السؤال للتعبير عن الرغبة في التغيير:
فيـا قلبي متـى تشفى؟ -- فجُرحـي قـد بدا يسري
ويـا دهري متى تصفو؟ -- فقـد حيّرتَ لي أمري

لقد التزمت الشاعرة في المجموعة بالبنـاءَ المعماري العمودي للشعر، ونجحت في محاكاته.
ومن المآخذ التي تُسجّلُ هنا سيطرةُ (الخطاب) على بعض النصوص والاعتماد على (ياءات  النداء) لإبراز ذلك على الرغم من أن معظم أنظمة النصوص جاءت هادئة:
فمهلاً يا  بني صهيون مهلاً -- فقدسي  لن تنالوا مـن ضياها
ومهلاً يا فلولَ  الغدرِ مهلاً -- فقدسي سوفَ تسمو في علاها

وتتضمن المجموعة - إلى جانب ما تقدّم - بعضَ النصوص التي كُتبت لمناسـبات محدّدة.
وهي بعامة أقرب إلى النظم منها إلـى الشعر.
وكنا نتمنى عدمَ إلحاقها بالمجموعة، لأنها تتنافر والطقس الشّفاف لبقية النصوص.

خلاصةُ القول:
تتكىء مجموعةُ تراتيل الروح على أربعةِ أركان هي الطبيعة والألم والوحدة والفراغ وهي عناوين رئيسية لصورة الفرد المعاصر، ومدخلٌ لقراءته.
وقد نجحت الكاتبة في إبراز ذلك من خلال الصورة تارة والتدفق الوجداني تارات أخرى.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال