جهود العرب في مجال السيميائيات.. العلم والبيان الوسائل غير اللفظية وهي الاستدلال بالعين والإشارة والنصبة

عرف العرب هذا العلم ومارسوه في حياتهم ،وذلك قبل أن تقعد له القواعد وتوضع له الأصول.
ومن ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه للصحابة رضوان الله عليهم ،حين عهد لعمر بالخلافة: "فكلكم ورم أنفه، "أي اغتاظ وذلك يعد لغة إ شارية تحكي الواقع بصدق ويقين.

وفي مجال الدراسات العلمية الجادة قدم الجاحظ دليلا باهرا على عبقريته المشهود بها.
وهو يرفد الدراسات العلمية ببحث سيميائي مميز نلخص ملامحه فيما يلي:

1- تعريفه البيان بأنه: "اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى.
أي كل ما أوصل السامع إلى المعنى المراد، يستوي في ذلك كل أجناس الأدلة، فبأي شيء بلغت الأفهام ووضحت المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع".

2- تعداده العلامات والإشارات التي تدل على المعنى وهي خمسة أشياء: اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال.

3- تفصيله الإشارات الناقلة للمعاني وشرحه لكيفيتها، وتطورها، وتحديده للمواقف الاجتماعية التي تستدعي التعبير بالإشارة كالرغبة في ستر بعض الأمور وإخفائها عن الحاضرين.

كذلك نجد ابن قتيبة قد أورد في كتاب: العلم والبيان الوسائل غير اللفظية وهي الاستدلال بالعين ،والإشارة والنصبة.

وهي الحال الناطقة بغير لفظ، والمشيرة بغير يد مثل قول الفضل بن عيسى بن أبان: "سل الأرض فقل: من شق أنهارك؟ وغرس أشجارك؟ وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا".

وقد بلغت السيميائية عندهم حدا من الرقي سمح لها بأن تجعل لكل موقف الإشارات التي تخصه مما يقوم مقام اللفظ.

ومن ذلك مواقف العشق والغرام لها علاماتها التي لهج بها الشعراء والأدباء وتناولها الناس... ومن علاماتها التي سجلها ابن عبد ربه:
وللحب آيات إذا هي صرحت -- تبدت علامات لها غرر صفر
فباطنه سقم وظاهره جوى -- وأوله ذكر وآخره فكر
ومن علاماته الأخرى: لجلجة اللسان  والحصر والعي والدموع.

ولابن القيم كتاب سماه روضة المحبين ونزهة المشتاقين، عقد فيه بابا عنوانه: في علامات المحبة وشواهدها.

من الميادين الأخرى: معرف، الكاذب من المنافق بعلامات كثيرة، الصوت وإيقاع الكلام.
قال تعالى: "فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول".

وقال الأصفهاني مدللا على أن نغمة الصوت تختلف تبعا للمقاصد والأغراض "...فاختلاف الألسنة إشارة إلى اختلاف اللغات وإلى اختلاف النغمات، فإن لكل إنسان نغمة مخصوصة يميزها السمع كما أن له صورة مخصوصة يميزها البصر".

وهكذا فإن مصطلح السيمياء بالمعنى اللغوي المقابل للعلامات، معروف عند العرب ويشهد له قوله تعالى: ومنه شجر فيه تسيمون.

فقد قال المفسرون: السيماء والسيمياء:العلامة. وقال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا -- له سيمياء  لا تشق على البصر.  
كأن الثريا علقت فوق نحره -- وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر

هذا للمد أما القصر فمنه قول الشاعر:
ولهم سيما إذا تبصرهم --- بينت ريبة من كان قد سأل
وقد تحدث كل من الغزالي وابن سينا عن اللفظ بوصفه رمزا وعن المعنى بوصفه مدلولا.

ولابن سينا مخطوطة عنوانها: كتاب الدر النظيم في أحوال علوم التعليم، ورد فيها فصل تحت عنوان: علم السيمياء يقول فيه: "علم السيمياء يقصد فيه كيفية تمزيج القوى التي هي جواهر العالم الأرضي  ليحدث لها قوة يصدر عنها فعل غريب، وهو أيضا أنواع فمنه ما هو  مرتب على الحيل الروحانية والآلات المصنوعة على ضرورة عدم الخلاء ومنها ماهو  مرتب على خفة اليد وسرعة الحركة، والأول من هذه الأنواع هو السيمياء بالحقيقة   والثاني من فروع الهندسة..."

أما ابن خلدون   فقد خصص فصلا في مقدمته لعلم أسرار الحروف ويقول عنه: "المسمى بالسيمياء نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من غلاة المتصوفة ،فاستعمل استعمال في الخاص وظهر عند غلاة المتصوفة عند جنوحهم إلى كشف حجاب الحس، وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر وتدوين الكتب والاصطلاحات ومزاعمهم في تنزيل الوجود عن الواحد... فحدث بذلك علم أسرار الحروف وهو من تفاريع السيمياء لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله، وتعدد ت فيه تآليف البوني وابن العربي، ومن فروع السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة بارتباطات بين الكلمات حرفية يوهمون أنها أصل في المعرفة...".

وبالرغم من غموض بعض ما جاء في هذه النصوص، إلا أنه يكفينا منها أنها دليل ساطع على ريادة علماء العربية -قبل دي سوسير بقرون طويلة- وتفصيلهم له بدقة تحدد أنواعه المختلفة، وتبين ارتباطاته بعلوم أخرى مثل الهندسة والطب والفلك والتصوف والسحر والطلاسم.

وهكذا نجد أن السيمياء موجودة في علوم المناظرة والأصول والتفسير والنقد، فضلا عن ارتباطها الوثيق بعلم الدلالة الذي كان يتناول اللفظة وأثرها النفسي كذلك، وهو ما يسمى بالصورة الذهنية والأمر الخارجي عند المحدثين.

فالواقع يقول أن: "المساهمة التي قدمها المناطقة والأصوليون والبلاغيون العرب مساهمة مهمة في علم الدلالة انطلاقا من المفاهيم اليونانية، وقد كانت محصورة ضمن إطار الدلالة اللفظية، وتوصل العرب إلى تعميم مجال أبحاث الدلالة على كل أصناف العلامات، ومن الواضح أنهم اعتمدوا اللفظية نموذجا أساسيا.

كذلك فأقسام الدلالة عند العرب قريبة من تقسيم بيرس، وتبقى أبحاثهم التي تتناول تعيين نوعية دلالة الألفاظ المركبة أو بوجه عام العلامات المركبة وتحليل الدلالة المؤلفة من تسلسل عدة توابع دلالية مدخلا جديدا ذا منفعة قصوى للسيمياء   المعاصرة".
أحدث أقدم

نموذج الاتصال