تتميز الإدارة السياسية لسيطرة رأس المال الاحتكاري على العالم، بالضرورة، بالعنف الشديد.
فللاحتفاظ بوضعها كبلدان متمتعة بالرفاهية، تضطر بلدان الثالوث الإمبريالي للاستحواذ على الموارد الطبيعية للعالم لها وحدها.
ولتحقيق هذا الهدف تكتسب العولمة الإمبريالية طابعها العسكري، وهو ما أطلقت عليه "إمبراطورية الفوضى" (وهو عنوان أحد كتبي في 2001)، وقد استخدم البعض هذا الوصف بعد ذلك.
وتنفيذاً لسياسة واشنطن للسيطرة العسكرية على العالم والتي أدت لعدد من "الحروب الوقائية" بحجة "الحرب على الإرهاب"، ادعى حلف الأطلنطي لنفسه الحق في "تمثيل الجماعة الدولية" مهمشاً بذلك الأمم المتحدة وهي الهيئة الوحيدة الجديرة بذلك الحق.
وبالطبع فالأهداف الحقيقية لا يمكن التصريح بها، ولإخفائها اختارت القوى المسيطرة أن تستخدم خطاب الديمقراطية، وأعطت لنفسها "الحق في التدخل" لفرض "احترام حقوق الإنسان"!
وفي الوقت نفسه، أفرغت السلطة المطلقة للاحتكارات ممارسات الديمقراطية البرجوازية من مضمونها.
ففي حين كانت الأوضاع القديمة تقتضي التفاوض السياسي بين المكونات الاجتماعية للكتلة الحاكمة من أجل إعادة إنتاج سلطة رأس المال، فرضت الإدارة السياسية الجديدة للاحتكارات، عن طريق عملية لا تسييس منظمة، نظام "الوفاق العام" (طبقاً للنموذج الأمريكي)، ليحل المستهلك والمتفرج السياسي محل المواطن النشط الضامن للديمقراطية الحقيقية.
وهذا الفيروس اللبرالي (طبقاً لعنوان كتيب نشرته في عام 2005)، يلغي فرصة اختيار البدائل الممكنة، ويقيم بدلها الوفاق حول اختيار الديمقراطية البرلمانية الشكلية.
وأساس المأساة هو انقطاع أنفاس النماذج الثلاثة للإدارة الاجتماعية التي أشرنا إليها أعلاه، ثم انهيارها. وهكذا انتهت الموجة الأولى للنضال من أجل التحرر ولم تبدأ الموجة الثانية بعد، وفي الظلام الذي يفصل الموجتين تحوم الوحوش، كما يقول "غرامشي".
وفي الشمال، تؤدي هذه التطورات إلى تفريغ الديمقراطية من مضمونها، يختفي هذا التراجع تحت ستار خطاب "ما بعد الحداثة" الذي يدعي اختفاء الأمم والطبقات من المسرح السياسي ليحل محلها "الفرد" الذي صار العضو الفاعل في التحول الاجتماعي.
وفي الجنوب، تحتل أوهام أخرى واجهة المسرح، مثل وهم تنمية رأسمالية مستقلة في إطار العولمة تسود بين الطبقات المسيطرة والمتوسطة للبلدان "البازغة"، ويشجعها النجاحات التي تحققت في العقود القريبة. وهناك كذلك الأوهام الماضوية (الدينية أو العرقية) في البلدان المتروكة لحالها.
والأمر الأخطر هو أن هذه التطورات تساعد على الالتفاف حول "أيديولوجية الاستهلاك" بافتراض أن النمو الكمي للاستهلاك يعني التقدم. وقد بين ماركس أن طريقة الإنتاج هي التي تحدد طريقة الاستهلاك وليس العكس كما يدعي الاقتصاد الشائع.
وهنا يضيع الأمل في مستوى أعلى للرشاد الإنساني وهو أساس المشروع الاشتراكي، وتضيع الفرص الهائلة التي يمنحها التقدم التكنولوجي للإنسانية لتحقيق الازدهار للأفراد والمجتمعات في الشمال كما في الجنوب، تحت تأثير التبديد المستمر لها من أجل تحقيق التراكم الرأسمالي المتواصل.
والأخطر من ذلك، هو الارتباط بين التقدم المستمر في الإنتاجية الاجتماعية وبين آليات الإفقار (الواضح على المستوى العالمي كما في حالة الهجوم على المجتمعات الفلاحية) وقد شرح ماركس هذه الفكرة بوضوح.
والوقوع في الانحراف الأيديولوجي الناتج عن الرأسمالية ليس وقفاً على المجتمعات المرفهة للمراكز الإمبريالية، فشعوب التخوم، وإن كانت غالبيتها العظمى محرومة من المستويات المعقولة للاستهلاك، فإن طموحها للوصول إلى مستويات استهلاك مناظرة للشمال المرفه، قد بعميها عن حقيقة أن تطبيق منطق الرأسمالية التاريخية يجعل من المستحيل تعميم مستواها في الاستهلاك على الكوكب بأكمله.
من السهل أن نفهم إذن أن ازدياد حدة التناقضات الداخلية الراجعة للتراكم الرأسمالي هي السبب المباشر للانهيار المالي في عام 2008.
ولا يمكن تصور الخروج من الفوضى الناتجة عن ازدياد حدة التناقضات الداخلية للنظام دون تدخل قوى تحمل فكراً بديلاً (وفي هذا السياق حددت "الطريق الثوري" في مواجهة فكرة تجاوز نظام فقد جدواه تاريخياً بمجرد "التقادم").
وفي ظل الأوضاع الراهنة، تبقى حركات الاحتجاج الاجتماعية، على الرغم من ارتفاع وتيرتها بوضوح، عاجزة في مجموعها عن التشكيك في النظام الاجتماعي المرتبط برأسمالية الاحتكارات لعدم امتلاكها لبرنامج سياسي في مستوى التحديات.
ويختلف الحال كثيراً اليوم عن الوضع السائد في حقبة الثلاثينيات حيث كانت تتواجه قوات تنادي بخيارات اشتراكية من جانب، وأحزاب فاشية من الجانب الآخر، ونتج عن هذه المواجهة قيام الجبهة الشعبية والصفقة الجديدة (New Deal) من جانب، والحلول الفاشية من الجانب الآخر.
وتعمق الأزمة شيء لا يمكن تجنبه، حتى في حالة نجاح عودة نظام سيطرة رأس المال الاحتكاري للسلطة – وهو أمر لا يمكن استبعاده. وفي هذه الحالة لا يمكن استبعاد تجذر أشكال النضال، رغم ما قد يواجهه ذلك من عراقيل.
ويعني هذا التجذر في بلدان الثالوث، وضع شعار نزع ملكية الاحتكارات على جدول الأعمال، وهو أمر يبدو مستبعداً في المدى القريب.
وبناء عليه لا يمكن استبعاد فكرة استمرار استقرار مجتمعات الثالوث حتى بالرغم من الاضطرابات الناتجة عن الأزمة.
وفي المقابل هناك احتمال قائم "بتكرار" موجة نضال التحرر التي سادت في القرن الماضي وبالتالي تهديد النظام من جانب بعض تخومه.
وهنا احتمال لمرحلة جديدة "لصحوة الجنوب" (طبقاً لعنوان كتابي الصادر في عام 2007 الذي يعتبر مرحلة باندونغ كالمرحلة الأولى لتلك الصحوة).
وفي أحسن الظروف يمكن للتقدم الناجح في هذا الاتجاه أن يفرض على الإمبريالية التراجع عن مشروعها الإجرامي الجنوني بالسيطرة العسكرية على العالم.
وفي هذه الحالة يمكن للحركة الديمقراطية في بلدان المركز أن تساهم بإيجابية في تحقيق هذا الهدف.
وفضلاً عن ذلك، فانخفاض الريع الإمبريالي الذي تستفيد منه هذه المجتمعات، والراجع لإعادة ضبط التوازنات الدولية لمصلحة الجنوب (وخاصة لمصلحة الصين) سيعمل على إيقاظ الوعي الاشتراكي.
ولكن من ناحية أخرى، ستبقى مجتمعات الجنوب في مواجهة ذات التحديات مما يضع حداً لتقدمها.
ويبقى سيناريو "التكرار الدقيق" أقل من أن يحقق سير الإنسانية في الطريق الطويل نحو الاشتراكية العالمية، فأحد الشروط المهمة الضرورية لجعل هذا الهدف ممكناً هو بالتأكيد تجديد الفكر الماركسي الخلاق.
أختم إذن بتكرار عبارة "غرامشي": تحليل متشائم، ولكن إرادة متفائلة.
التسميات
رأسمالية