مرتجلة ألما "أو صراع "التمسرح" في المسرح.. الصراع القائم حول الموقف الفكري والجمالي من خلال تحويل مشاهد المسرحية إلى جولات ساخنة من اللكم الرمزي

كتب أوجين يونسكو Eugène Ionesco "مرتجلة ألما l’Impromptu de l’Alma" سنة 1955، أي بعد أن حقق تراكما مهما في مجال الكتابة المسرحية، وفي وقت كان ما يسمى بمسرح العبث أو اللامعقول قد وصل إلى أوجه.

وإذا كانت تجربة يونسكو تتقاطع في كثير من خصائصها مع تجارب أخرى تنتمي إلى نفس التيار العبثي، فإنها تميزت، مع ذلك، بخصوصيات مرتبطة بالمسار الإبداعي الشخصي ليونسكو، ومنها على وجه التحديد، ذلك التفاعل والتداخل الموجود بين هاجسي الإبداع والتنظيم.

فقد عرف عنه انشغاله العميق -سواء في إبداعه أو في تنظيراته- بما كانت تعج به الثقافة الغربية من إشكالات، وبالكيفية التي ينتج ويتلقى بها مسرحه، وبردود الفعل التي كان يثيرها في أوساط النقاد والمهتمين بالمجال المسرحي.
في هذا السياق، تندرج "مرتجلة ألما".

لقد جاءت، في الواقع، كرد فعل على ما تعرض له ريبرتوار يونسكو السابق من نقد لاذع كانت وراءه أسماء مرموقة فـي مـجال النقـد المسرحي آنذاك، كرولان بارث Roland Barthes وبرنـار دورت Bernard Dort.

لقد أثرت آراء هؤلاء بشكل عميق في يونسكو، لاسيما وأنها نابعة من رموز يمثلون تيارات فكرية محددة، ويدافعون عن مبادئ أساسية متصلة بجماليات مسرحية مناقضة، جذريا، لما كان يؤمن به يونسكو من الناحية الفكرية، وما كان يعبر عنه في إبداعه.

إن هذا الصراع القائم حول الموقف الفكري والجمالي هو الذي حاولت "مرتجلة ألما" مسرحته، وذلك من خلال تحويل مشاهد المسرحية إلى جولات ساخنة من اللكم الرمزي يدور محور الصراع فيها حول خصوصيات الخطاب المسرحي وآلياته.

ولعل هذا ما يجعلنا نعتبر المرتجلة عبارة عن صياغة مسرحية لما يمكن تسميته ب"صراع التمسرح La querelle de la théâtralité " بين الناقد والمبدع.

وما يزكي هذا الرأي هو كون مقولة التمسرح نفسها - باعتبارها مقولة نقدية - شكلت في المرتجلة إحدى عناصر الجدل والاختلاف بين يونسكو ونقاده.

 ومادام الأمر يتعلق بمواجهة حاسمة حول قضايا تتصل بالظاهرة المسرحية وبأبعادها المختلفة، فقد سخر يونسكو لها كل ما أوتي من قدرة تخييلية ولغوية، وذلك من أجل توضيح منظوره الخاص من جهة، وتسخيف خصومه والسخرية من خطاباتهم وزعزعة خلفياتهم الفكرية والجمالية من جهة أخرى.

 وإذا كانت القاعدة التي أقام عليها يونسكو متخيل مسرحيته بسيطة جدا، تتمثل في حكاية كاتب منشغل بعمله في بيته يقتحم خلوته أشخاص من أجل مساءلته حول قضايا تتصل بمهنته، مما يبين أن المرتجلة غير معنية بمفهوم الحدث الكلاسيكي بقدر ما هي معنية بوضع شخوص في الواجهة وإثارة الانتباه إلى سلوكاتهم ومواقفهم؛ فإن ما يثير فيها منذ البداية، هو هذا العنوان المزدوج الذي وضعه يونسكو لمسرحيته: "مرتجلة ألما  أو حرباء الراعيl'Impromptu de l'Alma ou le Caméléon du berger ".

 إن عنوانا بهذا الشكل لا يمكن أن يكون اعتباطيا، ويونسكو نفسه لا يتعامل - شأنه شأن كتاب اللامعقول - مع العنوان بكيفية اعتباطية، بل يلاحظ أن صيغة هذا العنوان حاضرة في حوار الشخصيات ضمن المرتجلة نفسها.

فعندما سأل برطلميوس I يونسكو لماذا اختار عنوان "حرباء الراعي" أجاب:
"يونسكو: إنه المشهد الرئيسي في مسرحيتي ومحركها. لقد لاحظت، مرة، في مدينة إقليمية كبيرة، وسط الشارع، صيفا، راعيا صغيرا، حوالي الثالثة زوالا، يقبل حرباء  لقد أثارني ذلك وقررت أن أخلق منه مهزلة تراجيدية".

وعندما علق عليه برطلميوس I قائلا بأن ذلك مقبول علميا، استدرك يونسكو:
"يونسكو: لن يكون هذا سوى نقطة الانطلاق. لا أدري إن كنا سنرى الراعي على الخشبة وهو يقبل الحرباء، أو سأكتفي فقط باستحضار المشهد أو أنه لن يشكل سوى خلفية غير مرئية مسرح في الدرجة الثانية في الواقع، أعتقد أن ذلك لن يصلح سوى كذريعة".

 إن هذا الحوار يقدم لنا معطيات مهمة لفهم أبعاد العنوان في علاقتها بالمسرحية، ويمكن إجمالها في عنصرين:
- استقاء العنوان من مشهد في الواقع.
- إمكانية تحويل المشهد إلى مهزلة تراجيدية.

  يمكن التمييز، إذن، بين إطارين للمشهد: إطاره الواقعي المتحقق في زمن ومكان معلومين، ثم إطاره المتخيل المتأرجح بين إمكانية واستحالة إعادة إنتاجه فوق الخشبة.
إن استحضار هذا المشهد لا يشكل، في الحقيقة، سوى ذريعة رمزية لاستدعاء أشياء أخرى.

فتقبيل الراعي لحرباء بعد إنقادها من موت محقق يشير إلى سلوك إنساني نبيل، كما يشير إلى إمكانية خلق مصالحة بين الإنسان والطبيعة، خصوصا إذا كان الإنسان من النوع الذي لم تلوثه الحضارة (أي الراعي)، وبغض النظر عن نوعية العنصر المجسد للطبيعة (الحرباء المعروفة بتغيير لونها حسب الحالات).

 إن ما يهم يونسكو في كل هذا، هو الوقوف على مسألة المصالحة بين الذات والآخر، كيفما كان نوع هذا الآخر.

هذه المصالحة المتحققة واقعيا بين الراعي والحرباء، قد تبدو مستحيلة عندما يتعلق الأمر بالمتخيل، وهو يقصد - في ما يبدو - استحالة إعادة إنتاج نفس المشهد بينه وبين خصومه من النقاد.
وقد اختار هذه الصيغة الرمزية للتعبير عن ذلك.

ولعل ما يزكي لدينا هذا الاعتقاد، هو أن المرتجلة سوف تنقلنا مباشرة، وبدون سابق إعلان، من هذا المستوى التخييلي (حكاية الراعي والحرباء) إلى مستوى ميتامسرحي يعلن من خلاله يونسكو عن الهدف من كتابة مرتجلته:
"يونسكو: لقد قلت لكم إن هذا ليس سوى ذريعة، نقطة انطلاق في الواقع، سأضع نفسي على الخشبة بنفسي من أجل الشروع في مناقشة حول المسرح، ومن أجل عرض أفكاري حوله.

 وما دام الأمر يتعلق بقضايا مسرحية، فإنه يعلن أن الصيغة الملائمة لذلك هي المترجلة:
"يونسكو: سوف تكون عبارة عن مرتجلة ".

 يستخلص من كل هذا، أن العنوان المزدوج يشير إلى شكل المسرحية ومحتواها، إلى مستواها التخييلي والميتامسرحي في آن واحد.

من ثم، ف"مرتجلة ألما" تعرض لصراع مبدع هو يونسكو نفسه ضد نقاده. والملاحظ أنه ينخرط في هذا الصراع بشكل صريح وعلني، متخذا نفس الاختيار المولييري المتمثل في موقع المؤلف - الملحمي المشارك في أحداث المسرحية، العارض لذاته والممسرح لمواقفه الخاصة.

 فمنذ المشهد الأول يضعنا يونسكو في قلب معاناته ككاتب مسرحي، حيث يصفه الإرشاد المسرحي الأول بكونه يغط في نومه واضعا رأسه على المكتب بعدما تعب من الكتابة التي يشير إليها القلم الذي ما يزال بيده رغم نومه.

إن هذه الصورة تعطينا انطباعا أوليا عن الكاتب الذي يشتغل في ظروف جد صعبة ويضحي براحته من أجل الإبداع.

 هذا الوجه الأول من الصورة يبرز لنا معاناة الكاتب في عزلته ليهيئنا لاستقبال الوجه الثاني المتمثل في معاناة الكاتب مع نقاده الذين لا يقدرون عمله، ويتحاملون عليه.

وتلوح ملامح هذا الوجه الثاني بدخول برطلميوس I الذي أزعج يونسكو النائم بدقات قوية على الباب.
إن هذه الدقات هي، في الواقع، دقات النقد في باب الإبداع، خصوصا وأن برطلميوس I جاء يسأل يونسكو عن عمله ويعلن انتظاره لمسرحيته الجديدة.

 وفي الوقت الذي يبدأ فيه يونسكو بقراءة بداية مسرحيته التي لم تكن سوى بداية "مرتجلة ألما " نفسها، يلتحق برطلميوس II ثم برطلميوس III بعد ذلك، ليبدأ الجميع في مناقشة صاخبة تجمع بين الجاد والهازل، وتمتزج فيها السخرية السوداء بالموقف الفكري والجمالي الصريح.

ولا يحد من هذا الصخب إلا النداءات المفاجئة للخادمة ماري التي جاءت كي تنظف بيت يونسكو وتنظمه.
لعلها تجسد، ربما، نداءات الجمهور المسرحي الغائب عن هذه المناظرة بين المبدع ونقاده.

لقد اختار يونسكو لنقاده في المرتجلة إسما واحدا هو "برطلميوس"، وميز بينهم بالأرقام فقط.
وسواء تأملنا أسماءهم أو مظهرهم الخارجي، سنلاحظ أن يونسكو حملهم دلالات توحي بالتسلط والدغمائية والادعاء.

فاسم برطلميوس يذكرنا بالقديس برطيليمي Saint Barthélemy أحد التلاميذ أو الحواريين apotres الاثني عشر للمسيح الذين اختارهم كي يبشروا بالإنجيل.
لذا، فاختيار يونسكو تسمية نقاده بهذا الاسم يمكن أن يفهم منه القول بأن خطاباتهم تبشيرية ودعائية.

ولعل تدخلاتهم في المسرحية تؤكد ذلك، لاسيما وأنها تتضمن صفات معينة تتكرر باستمرار مثل: علمي، ديالكتيكي وظاهراتي.

 إن هذه الصفات التي تتكرر في خطابات برطلميوس I وII تكشف أن الخلفية المتحكمة فيها خلفية فكرية وجمالية بريشتية.

وهذا ما يقوي الاعتقاد لدينا بأن الأمر يتعلق، في الواقع، بموقف كل من رولان بارث وبرنار دورت، لاسيما وأن هذين الناقدين عرفا بدفاعهما، خلال هذه الفترة، عن النظرية الملحمية في المسرح عبر منبر ثقافي مشهور هو مجلة "مسرح شعبي Théâtre Populaire".

ويلاحظ أن المرتجلة نفسها تشير في الهامش الوحيد الموجود فيها إلى ضرورة " العودة إلى مجلة مسرح شعبي (بالنسبة لبرطلميوس I وII ) ومقالات الفيكارو عن النقد الدرامي (بالنسبة لبرطلميوسIII )".

 وإذا كانت أسماء الشخصيات في المرتجلة تحمل هذه الدلالات المعيارية، فإن مظهرها الخارجي المقولب Stéréotypé يصب في نفس الاتجاه، بطريقة أخرى.

فالإرشادات المسرحية تؤكد أنهم يلبسون لباس الأطباء وشعورهم منسقة بنفس الطريقة؛ بل إن حواراتهم الأولى، أثناء دخولهم، متطابقة تماما مما يجعلهم أصداء لصوت واحد.

إن هذا المظهر الموحد يبين أن تعدد نقاد يونسكو وتنوع خطاباتهم يضمر، في واقع الأمر، نزعة واحدة تطبعها الوثوقية وادعاء العلمية والتعامل مع النقد باعتباره دواء لأدواء الإبداع المسرحي، ومع الناقد باعتباره طبيبا قادرا على توجيه المبدع إلى "الوصفة النقدية" التي تشفي مسرحه من الأعطاب.

 ولتسفيه صورة النقاد هاته، يستعمل يونسكوالسخرية العبثية إلى جانب نوع من الجدل الجاد الذي يرد من خلاله على آرائهم ويشرح منظوره المسرحي.

لذا، نلاحظ أن القضايا والموضوعات الممسرحة تنقسم إلى قسمين: أحدهما يتعلق بمفهوم المسرح ووظيفته وتقنياته، والثاني يخص النقد المسرحي ووظيفة الناقد.

 في القسم الأول، أبرز يونسكو مفهومه حول النص المسرحي. فعندما سئل عن موضوع مسرحيته أجاب:
" يونسكو: هه، أتعلمون، إنني لا أعرف أبدا سرد مسرحياتي .. كل شيء موجود في الحوارات، في اللعب، في الصور الركحية.

المسألة بصرية إلى حد كبير كما هي العادة دائما إن صورة أولى أو حوارا أولا هو الذي يثير لدي  دائما ميكانيزم الإبداع، ثم بعد ذلك أدع نفسي تسير مع شخصياتي الخاصة ولا أعرف أبدا إلى أين أذهب بالضبط كل مسرحية هي، بالنسبة إلي، مغامرة، مطاردة، اكتشاف لعالم ينكشف لي شخصيا وأكون أول من يفاجأ بحضوره".

إن هذا الجواب يضع مفهوم النص، بالنسبة ليونسكو، في إطاره الحقيقي المتمثل في ما يمكن أن نطلق عليه "التمسرح العبثي" الذي "يتميز باللجوء إلى اللغة الفيزيقية للخشبة وتدمير سيكولوجيا الحبكة بمعناها الحقيقي، في آن واحد".

 لهذا، يقر يونسكو بعدم إمكانية سرد قصة مسرحيته مادام النص العبثي لا يتضمن حكاية بالمفهوم التقليدي.
إن مسرح العبث يعتمد الإيحاء والإشارة لمخاطبة العين، أولا وقبل كل شيء. وقد لخص يونسكو هذه الخاصية عندما ذكر في حواره صفة "بصري Visuel".

إن هذه الإشارة تسير في اتجاه البلاغة الجديدة التي أقامها كتاب اللامعقول، والتي أطلق عليها إيمانويل جاكار Emmanuel Jacquart بلاغة الحواس أو التحسيس Sensorialisation.

 تقوم هذه البلاغة على استيحاء مفهوم يعود إلى أنطونان أرطو في كتابه "المسرح وقرينه" هو "التجسيدات Matérialisations" التي تنبني على أساس إظهار صور محسوسة سماها يونسكو - في حواره السابق - ب "الصور الركحية".

فالنص المسرحي، إذن، هو تجسيد لبلاغة العلامة وليس لبلاغة الكلمة.
وفي سياق كشفه عن "ميكانيزم الإبداع" لديه، تحدث يونسكو عن سيرورتين هما: الإثارة والتداعيات، لأنهما يسمحان بخلق اللامنتظر والصدفوي، ويساعدان على تحرير الطاقات الإبداعية للخيال، كما هو الشأن في الحلم.

وبإبرازه لميكانيزم الإبداع، يبين يونسكو طابع التفرد الذي يدمغ نصوص مسرح اللامعقول، حيث تتحول كل مسرحية إلى مغامرة قائمة بذاتها أو إلى كشف جديد غير مسبوق.

ولعل هذا ما نبه إليه جاكار أيضا عندما قال بأن كل مسرحية عبثية تطرح تصورا خاصا يستحيل معه "استعمال تقاليد عامة Passe- partout. فكل عمل يجب أن يخلق قواعده الخاصة".

من ثم، فإن الصورة الملائمة لوصف العمل العبثي هي "استعارة المتاهة".
 وموازة مع هذا، فإن سجال يونسكو مع نقاده انتقل، بالضرورة، إلى المفهوم الأصلي والشامل ألا وهو مفهوم "التمسرح".

ونظرا للاختلاف البين حول هذه المسألة بين يونسكو الذي يؤكد أن التمسرح هو "ما هو مسرحي" وبين برطلميوس I الذي يقول إن التمسرح هو "ما هو ضد - مسرح"، اضطر يونسكو إلى الانتقال، كعادته، إلى العبث واللعب بالكلمات، وبالخصوص بكلمة واحدة هي: "العكس بالعكس Vice - Versa".

  وما دام الأمر يتعلق بنقاد يؤمنون بتصورات فكرية وجمالية محددة المعالم، فقد أخذت قضية وظيفة المسرح حيزا هاما في المرتجلة.
فقد حاول النقاد الثلاثة إقناع يونسكو بأن المسرح "درس تعليمي" انسجاما مع تصورهم الملحمي البريشتي.

إلا أنه يؤكد، في مقابل ذلك، أن المسرح مسرحة للعوالم الداخلية للمؤلف بما فيها: أحلامه، تخوفاته، رغباته وتناقضاته النفسية.
ولا تتخذ هذه المسرحة بعدا ذاتيا، كما قد يعتقد، وإنما تكتسي بعدا إنسانيا بالضرورة.

إن "مرتجلة ألما" لا تقف عند حدود إبراز عناصر التمسرح العبثي وحسب، بل تتجاوز ذلك نحو تحديد المنطق الفكري الذي يسند هذا التمسرح.
في هذا الصدد، يلاحظ أن الاكتشافات الفرويدية فتحت أفقا جديدا لأنها سمحت بتعليل فعل واحد بسببين متناقضين.

لذا، نجد في مرتجلة يونسكو صدى لمنطق جديد يقوم - حسب استيفان لوباسكو Stéphane Lupasco - على "سببية التعارضات Causalité d’antagonismes"، أو بعبارة أخرى على منطق المفارقة، كما هوالشأن في الحوار التالي:
"يونسكو: (مغمغما) لا أذهب إلا لكي أبقى بشكل أحسن، أهرب بشكل معقول أي بشكل لامعقول، أهرب لكي لا أرحل.. (بكثير من الثقة في النفس) نعم أذهب لكي أبقى...

ومادام يونسكو يقدم منظوره الفكري والجمالي حول المسرح في سياق مواجهة مع نقاده، فقد تحولت المرتجلة إلى محاكمة مباشرة للنقد والنقاد. لقد سبقت الإشارة إلى أن برطلميوس I وII وIII يمثلون شريحة من النقاد تردد مقولات بريشتية منها: التغريب، ديالكتيك المسرح، التعليمية، العدة الركحية، التاريخانية، اللوحات المكتوبة، الواقعية المؤسلبة ...إلخ.

بل إن برطلميوس II لم يتردد في القول:
" برطلميوس II: بريشت هو إلاهي الوحيد، وأنا رسوله".

 إن يونسكو يكشف في مرتجلته عن الخلفية الفكرية والجمالية لنقاده بشكل يساعد على اكتشاف هوياتهم، لاسيما وأنه أفصح في سياق المسرحية عن المنابر التي يكتبون فيها وهي: مجلة "مسرح شعبي" وجريدة "الفيكارو".

 إن مجلة "مسرح شعبي "التي ارتبطت بالسياق الثقافي للخمسينات - وهي الفترة نفسها التي بلغ خلالها مسرح العبث أوجه - كانت تضم أسماء بارزة كرولان بارث الذي أدارها لفترة محددة، وجان دوفينيو وبرنار دورت وغيرهم. لذا، فوقوف "مرتجلة ألما" عند مصطلح "التمسرح" لم يكن، في واقع الأمر، سوى استجابة لمرحلة كان النقاش منصبا خلالها حول هذا المصطلح بين أعضاء المجلة المذكورة. ولعل هذا ما يؤكده جان دوفينيو نفسه بقوله: "هذا التمسرح نغوص به في الاجتماعي وفي الجمهور".

 إن التركيز على البعد الاجتماعي للتمسرح يجد صداه في خطابات برطلميوس I وII وIII ذات المرجعية البريشتية. وليس هذا غريبا مادام النقاد الذين يشير إليهم يربطون علاقة حميمية مع البريشتية. فبرنار دورت خص بريشت بكتاب تحت عنوان "قراءة بريشت Lecture de Brecht" قرأ فيه جل أعماله، أما رولان بارث الذي كتب عنهم كثيرا، فقد كان "يرى فيه الجواب على السؤال الذي كان يطرحه على نفسه وهو: وجود فن مسرحي في خدمة النقد الاجتماعي".

 ولعل ما يثير الانتباه في هذا السياق، هو أن "مرتجلة ألما" كتبت في وقت كانت تعيش خلاله مجلة "مسرح شعبي" لحظات الاحتضار، حيث ستتفرق هيئة تحريرها ما بين سنتي 1956 و1957، مما يجعلنا نذهب إلى القول إن هذه المسرحية لم تأت فقط كرد فعل إبداعي على خطابات نقدية ذات مرجعية بريشتية مرتبطة بمنبر ثقافي، وإنما أتت قصد إعلان نهاية هذا المنبر، وبالتالي نهاية "أسطورة البريشتية" في النقد، في عصر لا تعرف فيه القيم الثقافية استقرارا.

 والملاحظ أن هذه النهاية صيغت بطريقتين متداخلتين إلى حد الانصهار: عنف الخطاب من جهة، وذلك للكشف عن الطابع المعياري، الوثوقي، التلقيني، الإقصائي والاستبدادي لهذا النقد، ثم السخرية والعبث من جهة أخرى. ولعل هذه الصيغة المزدوجة هي التي جعلت يونسكو يصف مرتجلته - من الناحية النوعية - بكونها "مهزلة تراجيدية Farce tragique".

 إن المرتجلة ترسم، في نهاية الأمر، صورة كاريكاتورية للنقاد، حيث تكشف عن جهلهم (هم يعتبرون شكسبير روسيا أو بولونيا)، وتبين تهافت خطاباتهم وتناقضها (اختلافهم حول كلمة "Vice - Versa" وحول مقولة "الصدق")، وتسخر من ترديدهم لأشياء محصلة سلفا Tautologies، واضطراب مصادر معرفتهم (العودة إلى معجم "لاروس الصغير" للتعرف على شكسبير)، وتكشف النقاب بالتالي عن نزعتهم العدائية إزاء المبدع الذي لا يساير أفكارهم.

 وبموازاة هذا التقويض والهدم، يعمل يونسكو، في نهاية المطاف، على إبراز موقف بناء إزاء النقد في علاقته بالإبداع، وذلك من خلال مخاطبة مباشرة للجمهور يقول فيها:
"يونسكو: أؤاخذ على هؤلاء الدكاترة اكتشافهم حقائق أولية وإلباسها لغة مبالغة جعلتها تتحول، في ما يبدو، إلى حقائق مجنونة.

إن هذه الحقائق - شأنها فقط شأن كل الحقائق حتى ولو كانت أولية - قابلة للرفض.
إنها تصبح خطيرة عندما تخذ مظهر العقائد التي لا تناقش، وعندما يدعي الدكاترة، باسمها، إقصاء حقائق أخرى وتوجيه الإبداع الفني، أو بالأحرى الاستبداد به.

ينبغي للنقد أن يكون وصفيا وليس معياريا إذا كان للنقد بدوره الحق في إصدار الأحكام، فعليه ألا يفعل ذلك إلا وفق قوانين التعبير الفني نفسها، وفق أسطورة العمل الفني الخاصة، وذلك بالانخراط داخل عالمه".

إن يونسكو يدافع عن نسبية القيم النقدية، ويدعو إلى تجنب المعيارية واعتبار العالم الداخلي للعمل الفني منطلقا أساسيا للحكم النقدي.

وإذا تأملنا الصيغ التي تتردد في حواره كالوصفية وقوانين التعبير الفني وأسطورة العمل الفني، فإننا نكتشف فيها صدى بعض المناهج النقدية التي بدأت تترسخ أقدامها في الساحة الثقافية الغربية آنذاك، ومنها على الخصوص: البنيوية والتحليل النفسي.

لهذا، يمكن القول إن يونسكو ناقد يتخذ في المرتجلة لباس مبدع، وإن مسرحيته ليست مسرحة لصراع بين تيارين مسرحيين هما: البريشتية والعبثية وحسب، وإنما هي، في واقع الأمر، مسرحة لواقع ثقافي وحضاري شامل عاشته الثقافة الفرنسية بالخصوص بعد الحرب العالمية الثانية وتميز بتناقض المواقف السياسية والاجتماعية إزاء الواقع والإنسان، وبالتالي إزاء الفن الذي يعبر عنهما.

وخلاصة القول، إن "صراع التمسرح" الذي اتخذه يونسكـو ذريعـة فـي مرتجلته جعل خطابه الميتامسرحي منفتحا على أبعاد متعددة: نقدية (المسرحية عبارة عن ممارسة إبداعية لنقد النقد المسرحي)، تنظيرية (المرتجلة تحدد مكونات التمسرح العبثي)، تاريخية (التأريخ لمرحلة حاسمة في تاريخ المسرح الغربي عرفت صراعا بين البريشتية واللامعقول)، ثم إيديولوجية (نسبية القيم ووحدة الشرط الإنساني بغض النظر عن التناقضات الاجتماعية).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال