يختلف (نموذج الإنتاج) الذي طوّره الماركسي الفرنسي (بيير ماشريه) P.Macherey في كتابه (من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي) 1966 عن نموذج لوكاش الانعكاسي في العلاقة بين العمل الأدبي والواقع، حيث يرى أن العمل الأدبي هو عمل إنتاجي، وأن المؤلف ليس مبدعاً، وإنما هو منتج يحوّل المواد الأولية إلى نصوص أدبية.
وهذه النظرية لا تختلف عن نظرية الشكلانيين إلى الكاتب كحِرفي يستعمل الأدوات، ومشابهة لتأكيد بارت في (س/ز) على أن الكتابة ممارسة تستعمل المدوّنات.
ويرى ماشريه أنه على الرغم من انطلاق الكاتب من مشروع يعتزم بوساطته خلق نص موحّد ومتماسك، فإن هذا التماسك لم يتحقق عملياً: فمشروع جول فيرن مثلاً الذي هو بيان لكيفية قهر العلم للطبيعة، ومشروع بلزاك في (كوميدياه الإنسانية) الذي هو رصد للمجتمع وإصدار حكم عليه، كلاهما لم يتحقق وفق مقاصد مؤلفه.
فرواية (الجزيرة الغامضة) لفيرن تحاول إضفاء طابع عصري على موضوعة (روبنسون كروزو) بتصوير مجتمع صغير من المنبوذين الذين يضطرون إلى وضع الثروة الطبيعية للجزيرة قيد الاستخدام الاجتماعي.
ولكن مع تقدم القصة يكتشف منبوذو الجزيرة أنهم ليسوا الوحيدين في الجزيرة، فالكابتن (نيمو) يعيش فيها عند سفح البركان، ورجاله منتشرون في الجزيرة، وهم مزوّدون بالسلع.
لكن ما كشفت عنه رؤية فيرن يختلف عما كانت ترمي إليه: فقد كان فيرن يعتقد بإمكان تحقيق الفتح الريادي لعوالم جديدة من قِبَل العلم والصناعة. وكان ذلك جزءاً من إيديولوجيا الامبريالية الاستعمارية.
ولما كان كل روائي جيد لا بد له من إيديولوجيا ينطلق منها أو تقع في ثنايا عمله الأدبي، فإن الإيديولوجيا ما أن تدخل النص حتى تبدأ بالعمل مع العناصر الأخرى، فتغدو "مجوّفة"، وتتحوّل إلى تخييل، بحيث لا تعود الشيء نفسه الذي كانته من قبل.
وهكذا يتبدّل مشروع فيرن عندما يدخل إلى السرد الخاطئ. كذلك تتناقض أقوال بلزاك الإيديولوجية مع عناصر أخرى في سرده المتباين. وتتحوّل إلى شيء آخر، بفعل التخيّل، ذلك أن الأدب يتحدّى الإيديولوجيا باستخدامه لها، وأن المهم في العمل الأدبي هو الأمور التي لا يقولها العمل الأدبي.
ومن هنا فقد رفض ماشريه فكرة كون النقد تفسيراً، وذلك لأن التفسير نصّ معيّنٍ ينطوي بدهياً على استخراج أشياء موجودة في العمل الأدبي، ولكنها غير واضحة للقارئ المسرع.
وهذا ينطوي على افتراض أن ما يحتويه النص تام ومتماسك ويحمل معنى يقتضي الكشف عنه.
وعلى الرغم من أوجه التشابه بين البنيوية وعمل ماشريه، فإن عمله يبتعد عن البنيوية حين يقترح أن اكتشاف كيفية تكوّن النصوص للمعنى ليس كافياً، وأنه يجب على المنظّر الأدبي أن يشرح النص في ضوء فهم نظري لواقع يتضمّن المؤلف والنص والقارئ المنظّر.
وهكذا تنبذ نظرية ماشريه النقد التفسيري، وتختلف عن نقد لوكاش الماركسي فتستبدل الانعكاس بالإنتاج، وتستبدل فكرة النص التام المتماسك بفكرة النص غير التام والذي يملأ فجواته القارئ أو المنظّر.
وهي وصفية لا تقويمية، وتكشف الحضور المبدع للمؤلف بتصويره كشخص غير واعٍ تماماً بما يفعله النص الذي أنتجه.
التسميات
دراسات أدبية