الانشغال بجغرافية البلدان والاحتفاء بزمن الفروسية وطواحين الهواء في مجموعة (تجاعيد المرايا) لحمود محمد الصميلي

يبني الدكتور حمود محمد الصميلي - في مجموعته (تجاعيد المرايا) مفهومَ التراجيدي على الصدام بين المثل الأعلى للفرد وبين الواقع، فكلما سعى الفردُ للصعود، ليحقق أحلامه يجد من يمنعه ويشده إلى الأسفل:
ما تقتُ للعلياء أنشـدُ  مقعداً -- يعلو بـه قومـي سماءَ النجمةِ
إلا تتبَّعني  حسـودٌ  جاهـلٌ -- يهوى نكوصي عن بلوغ القمةِ
ماسرتُ في دربِ المعالي خطوةً -- إلا ثنـى  عزمي ضعيفُ الهمّةِ
من كلِّ  قزمٍ  ما علتْ أفكارهُ -- جلـدَ الثـرى متزمّلٍ بالظلمةِ

وقد تشكّلت - نتيجة للصدام المذكور - أزمةُ الفرد؛ فهو طَمَوح ومشتعلٌ من جهة ، ومشلول الإرادة من جهة أخرى.
إن أحلامه في القمّة، لكن القاع دائماً يشدّه إليه، فلايستطيع تحقيقها:
كم أتعبتْ عزماتُه ليلَ السُّرى -- وترّعرتْ كلماتُه في القمةِ

ولم يكن المجتمعُ بأحسن حالاً من الفرد؛ فهو متفسّخ ومريض، انعدمت فيه  قيم البطولة والفروسية التي كانت سائدة سابقاً.
يقول:
لكـن قومي اليومَ صوّحَ نبتُهم -- ومروجُ  مرعاهم هيَ القيعانُ
عبَـَدو الهوى وتضلَّعوا من نبعهِ -- ونمتْ لهُ  في دُورهم أغصانُ
وتفرّقُ  الأبنـاءُ  في أيدي سبا -- قـومٌ أهانوني فهاهمُ هانـوا
اليومَ  أسـيافي  التي  أعدددتُها -- عـادتْ لها في مهجتي أسنانُ
وأعبُّ من نهرِ السّرابِ وأحتسي -- مـن منبـعٍ بلهيبهِ بُركـانُ

والجانب الآخر لأزمة الفرد تمثّلَ في المشكلات التي يواجهها المسلمون في العالم من اضطهاد وإبادة وقتل (أنظر نص كوسوفو وضمير الحج 15، وليلة مع الحرف حيث يتطرّق إلى موضوع الشيشان.

لتلك الأسباب الثلاثة (الصدام مع المثل الأعلى، والبؤس الاجتماعي، ومشكلات المسلمين في العالم) هيمن المناخ التراجيدي على المجموعة وألقى بظلاله على عناوينها التي جاءت على النحو التالي (عوائق، سراب، الصقر الجريح، كوسوفو، صامت مبين، رحيل خيوط الشفق، تجاعيد المرايا (وهو عنوان المجموعة)، شـكوى، مسافر في سياج دائري، بين الغيوم، المرتقى الصعب، وَهْمٌ، بين الغيوم)، بينما لانجد -في الطرف المقابل- سوى عنوان واحد هو (قدوم الضياء).

وقد أضفت هذه العناوين - بدورها - مناخاً تراجيدياً على النصوص، وفرضت عليها معجماً لغوياً عكس بوضـوح مشـكلات الفرد المعاصر وأزمته، من ذلك: (ظلمة، أزمة، ليل، نقمة، صـدى، وحوش القفر، الليالي السود، مقبرة، قهر، جفافُ الوريد، أحزان، حمّى، أسى، شـحوب، طغيان، الجسم الموات، سوط الظالمين، الحِمَام، منخور، السّراب، الحزن، الدِّمن، عذاب، يأس، اغتراب).

يُلاحظ مما تقدّم أن كافة عناصر المجموعة تناغمت مع المناخ التراجيدي، لهذا السبب يمكن اعتباره مدخلاً رئيسياً لقراءة مجموعة (تجاعيد المرايا).

إن ثِقَلَ المأساة الذي هيمن على المجموعة، ومن ثم على الفرد والمجتمع جعل الرؤيا فيها غير واضحة، والمساحةَ المعطاة لها قليلة، إنها مجرّد إشارات تبدو تارة في (الفكرة البعيدة) التي لايستطيع الفرد الوصول إليها، وتارة في (أنا الفرد) الذي يُكابر على الرغم من ضعفه مقارنةً بعتوِّ الآخر، وتارة في المرأة / الحلم التي كما يقول عنها الكاتب:
تبدو كنجمٍ بين طياتِ السحابْ
تبدو كومضةِ بارقٍ
تزهو ويخفيها النقابْ
تبدو فتورقُ روضةٌ
ويفوحُ طيبُ الوعدِ
تمطرُ ديمةٌ
يصفو شِهابْ
ما كنتِ إلا النجمَ
يُرجى من مراقيهِ اقترابْ
ما كنتِ إلا الفجرَ
يُرجى من محياهُ انسكابْ
ماكنتِ إلا الوردَ ، كم في الوردِ
من سحرٍ مُذابْ
ما كنتِ إلا الموعدَ المنشودَ
يُلفى بعد نأيٍ واغترابْ

لكن الشيء الوحيد الذي بدا واضحاً - في الرؤيا - تمثّلُ في الانعطافِ الحادِّ إلى (الماضي القَبَلي).
فحين رفض الكاتبُ الواقعَ - بكل ما فيه من أزمات - كان من الطبيعي أن يلجأ إلى الماضي، وتحديداً الماضي القَبَلي.

ففيه يجدُ الفردُ ذاته ويحقّق ما يطمح إليه، والمجتمعُ - في القبيلة - منظمٌ لامشكلات فيه.
فالكاتب حين يتذكّرُ القبيلة يُحِسُّ بشموخ واعتزاز، وحين يتذكّر الواقع يُحسُّ باستهجان واستياء:
في نوادي عشيرتي  كنتُ نجماً -- سـاطعَ  النورِ حاضراً لايغيبُ
كنتُ نهراً موزّعاً  في السواقي -- جدولي معشِبٌ وغُصني رطيبُ
كنتُ سيفاً يغيبُ عني وقاري -- حينَ تُبـدي بناجذيها الحروبُ
أقطعُ البيدَ حادياً ركبَ قومي -- في ليالٍ أنا السميرُ الحبيبُ

والكاتب مقتنعٌ تماماً بأن الرؤيا - بهذا المعنى - سوف تتحقق:
لكن نفسي عادَ يغمرُها الرِّضى -- لابد حتماً أن تصحَّ البوصلَةْ

وقد أدّى احتفاء الكاتب بما فاتَ من قيم وبطولات إلى غلبة (الفعل الماضي) على كافة نصوص المجموعة الخاصّة بحقل الرؤيا:
يارعى اللهُ سالفاتِ السنينِ -- حين كان المزارُ مرأى العيونِ

والسؤال هنا:
إذا كانت الرؤيا التي بنى عليها الكاتب آماله تبشّر بعودة زمن الفروسية، فهل هذه الرؤيا مشروعة اجتماعياً؟
وهل يمكن المقارنة مثلاً بين هذا الفارس الذي تعبّر عنه المجموعة ، وبين دونكيشوت (فارس القيم النبيلة ، وطواحين الهواء)؟

في الجانب الآخر يمكن لقارىء المجموعة أن يُلاحظ أنها تتبنى البناء المعماري العمودي في الوزن والقافية ونظام تشكيل الصورة (التشبيه والاستعارة) وتعدد الموضوعات، واستقلالية البيت الواحد، واستخدام المفردات ذات الدلالة الأحادية، والتراكيب ذات الطابع الخطابي، كما تتبنّى المجموعة قيمَ المدح التي تعاطى معها الشعر العربي القديم (نص الصقر والمجد، ونص رحيل خيوط الشفق أنموذجَين).

وهناك نصان هما (بين الغيوم، وقدوم الضياء) اعتمدا نمط التفعيلة توزيعاً، ولكن لو أعيد تشكيل أسطرهما لكانا عموديين بامتياز.

ومما يُلاحظ أيضاً أن هناك (طولاً مبالغاً فيه) في بعض النصوص غير مسوّغ فنياً.
وقد ساهم هذا الطول في وقوعها في التكرار، ومن ثم في إضعاف شعريتها.

والأمر اللافت للنظر أن الكاتب كان يُكثر من (الاتكاء على جغرافيا البلدان)، ربما ليؤكّد أن همّه يتخّطى المحلية إلى العالمية، لكن هذا الأمر أضعفَ النصوص التي تتعاطى مع هذا الجانب، وأوقعها في سطحية مبتذلة، وهو - لذلك- لم يساعد في تعميم المأساة أو نمذجتها، فقُدّم بأسلوب تقريري تتالى فيه أسماءُ المواقع دون توظيف، إلى جانب أن تراكم هذه الأسماء والمواقع أفقدَ الحالة الشعرية بريقَها، وألقى بثقله على كاهل القارىء الذي لايعرف: هل يتابع الجغرافيا، أم يستمتع بالشعر؟ من ذلك قولُه:
فلي في رُبا الشيشانِ أختٌ ترمّلتْ -- وأُخرى  من البلقانِ تُقتادُ  للعَاْبِ
وأمُّ بأرض الرافديـنِ  تكالبـتْ -- عليها الرزايا خيّمتْ شرعةُ الغابِ
ولي أسرةٌ في القدسِ تقتاتُ لحمَها -- سـباعٌ  ضوارٍ من يهودٍ وأذنابِ
ولي حاضرٌ يبكـي  ومجدٌ مضيّعٌ -- تلبّسَ من سـوادِ المآسي بجلبابِ

ما نود الإشارة إليه أخيراً أن مجموعة (تجاعيد المرايا) لحمود الصميلي برعت في (التعبير) عن مأساة الفرد المعاصر، ومعه الواقع المعاصر، ولكنها - جمالياً - لم تتخطّ حدود (الخطاب الشفوي ) الذي يجترُّ نفسَه.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال