الشكل الطباعي لقصيدة المساء لمطران: فصوله ومقاطعه.. لحظات الصمت في التقاسيم الموسيقية العربية

قد يكون المثل العربي الشائع "إذا كان الكلام من فضّة فالسّكوت من ذهب"، مفيداً في هذا الموضع، فلهذا المثل صلة بكلامنا، وإذا كان للكلام دلالة فإنّ للصمت دلالة أيضاً، وقد تكون دلالته أبلغ، وإن كان يفهم من هذا المثل أنه يُضرب أحياناً للدلالة على الثرثرة، فالكلام يشف ويفضح صاحبه، كالشخصية المسرحية الغنية التي نعرفها من خلال الحوار والحركة والمونولوغ، أما الشخصية الصامتة فهي الغامضة والمبهمة والملغزة.

إن تقسيم النص إلى فصوله أو مقاطعه الستة ليس عملاً اعتباطيّاً، وإنما هو تدخُّل من الشاعرذاته، وهو تدخل يحمل في ذاته دلالات محدّدة ودلالات غير محدّدة، فكلّ مقطع يتصل بما سبقه وبما يتلوه اتصال الانفصال، وهو منفصل عنه انفصال الاتصال، وهو شبيه إلى حدّ بعيد بلحظات الصمت في التقاسيم الموسيقية العربية، فهذه اللحظات تمرّ على الصوت، وهو يرتاح ضمن نغمية الدلالة وحركيتها، ويستقر في باطنها، لينهض العمل الأدبي في حالته النهائية، وهو شبيه أيضاً إلى حدّ بعيد بالعمل المسرحي المكوّن من فصول ومشاهد، أو هو صورة مصغّرة عنه، فقد يحمل كلّ مقطع من مقاطع النص ذروة صغيرة تدفعه إلى قرار صمتي، ليقوم هذا القرار بالتعبير اللاّمسموع، وعليه فإن قراءة النص تضعنا إزاء فاعليتين: قراءة الدلالة في سطح النص، وهي قراءة أولى، وقراءة النواة الدلالية القابعة في درجة الصفر، أي في حالة الصمت، وهي قراءة العمق والهدف.

يمثّل المقطع الأول الدخول والتمهيد إلى عالم الذات الناطقة والموضوع معاً، فالذات تعرض على قارئها واقع الصراع الذي تعيش فيه بين داءين يتقاذفانها، ويتنازعان عليها، وهو تنازع الأقوياء على الضعفاء، فتقع هذه الذات فريسة لهما، ولا حول لها ولا قوة، وتقع ضحية دوامة شديدة في نهاية المقطع.

ولكن ماحدث في لحظة الصمت بين المقطعين الأول والثاني، لم يكن بلا فاعلية، إن هناك فجوة ينبغي أن تُسدَّ، وقد قامت لحظة الصمت بهذه المهمة، فكانت أبلغ دلالة وأكثر فاعلية، بل إنها قالت من خلال الصمت مايزيد على ماقاله الشاعر في المقطع الأول،وهذا ما نسمّيه "بلاغة الصمت"، فتركّز الداءان في داء واحد قويّ مهيمن، فالرسالة في المقطع الثاني لا تأتي على ذكر الداء الأول (المرض)، وكأنه غاب وامّحى في الداء الثاني (الهجران)، أو غدا رديفاً له، أو تابعاً يدور في فلكه، وهذا بعض ما تبوح به لحظة الصمت التي طالعتنا بين المقطعين، وليس ذلك وحسب، وإنّما قد وجهّت فاعلية الصمت الخطاب في القصيدة وجهة أخرى، فقد كان الخطاب في المقطع الأول وصفيّا، وصف الشاعر فيه ما حلّ به من جرّاء تنافس الداءين وتعاونهما على جسده الضعيف، ولكنه بدأ المقطع الثاني بالتوجه مباشرة إلى  مخاطبة الحبيبة متهماً مرّة (عمرين فيك أضعت...) متراجعاً مرّة أخرى عن اتهامه (يامنيتي)، مقترباً من الحبيبة ومبتعداً عنها معاً.

ويسلّمه المقطع الثاني إلى فجوة صمتية أخرى في البيت الأخير، فيعود خالي الوفاض، فلا هو نعِمَ بجهله، ولا غَنِمَ بعقله كما ينعم ويغنم الآخرون، وهكذا يتركنا المقطع الثاني إزاء لحظة صمت أخرى غير مجانية، إنها لحظة مراجعة مع النفس ومع الحبيبة، لحظة فيها العودة إلى الماضي بكلّ مافيه من ذكريات، وتذكّر وحوادث لا يذكرها الشاعر في خطابه صراحة، ولكنّها تتجلّى في المسكوت عنه، فهو لا يذكر الأسباب التي جعلته عاشقاً، ولا يذكر الحوادث التي مرّ بها مع حبيبته، ولكنه يصل إلى المقطع الثالث ليبيّن علاقته الحالية بهذه الحبيبة، فهي علاقة تنافرية مرّة وتجاذبية مرّة أخرى، فصورة الحبيبة خادعة، وهي تبدو له عاشقة وفية من ظاهرها، ولكنها تخفي وراء تلك الصورة صورة أخرى، وهي لا تستهدف من ذلك الظاهر سوى خداعه لتُرديه بعد ذلك.

وهو في هذا المقطع يفسّر ويعلّل، فالحبيبة استطاعت أن تستولي على قلبه استيلاءً تامّاً، وتتمكّن منه، وتستبدّ به، ومع ذلك فهو راضٍ بهذا الواقع، مستسلم لقدره، قانع بالقليل القليل منها، وهذا القليل لا يدوم أيضاً، وهو على مايبدو كلام يخرج من الشفاه لا من القلب، وليس هذا القليل سوى طُعم للإيقاع به، فالحبيبة غادرة تقترب منه لتبتعد عنه، وهكذا يسلّمنا المقطع إلى فجوة أخرى نراها ونتلمّسها في لحظة الصمت بين المقطعين الثالث والرابع، وهذه اللحظة هي الأخرى غنيّة بدلالاتها وفاعليتها، فهي أولاً توجّه الخطاب وجهة أخرى غير ما كان عليه في المقطعين الثاني والثالث، ويعود الخطاب إلى الذات والحديث عنها ووصفها؛ فالحبيبة ذات قلب قاسٍ، فهي مع غدرها وظلمها لم تتكرّم عليه حتى بالموت، وقد هجرته دون أن تؤنس مقلتيه بأنوار طلعتها الزهراء، ودون أن ترويه برشفة مكذوبة من وهم سرابها، حتى إنها لم تنعم عليه بالسمّ الزعاف الذي تنشره روضتها الغنّاء، بل تركته على قيد الحياة ليكون عذابه أشدّ وأمرّ، تركته وحيداً للذكريات والبعد والهجران والتحسّر، وكأنها المرأة السادية المستبدّة، وهنا تسلّمنا لحظة الصمت إلى المقطع الرابع، وقد آل الشاعر فيه إلى العزلة والتوحّد، ويالها من وحدة قاسية وعزلة مرّة!.

كما آل الشاعر العاشق إلى التذكر ساعة الإمساء، فتحوّل كل جميل حوله إلى قبيح، وكلّ متِّسع إلى ضيّق، فالهواء العليل، والمقام الجميل، والطواف في البلاد، والجلوس إزاء البحر، كل هذه الإيجابيات والجماليات والمنشّطات تتحوّل إلى سلبيات وقبح ومثبطات، إن طعم الحياة غدا مرّاً في فم الشاعر لابتعاد الحبيبة عنه، وليست واحدة أخرى في الكون يمكنها أن تسدّ مسدّ هذه الأنثى، وكأننا هنا إزاء قصيدة "البحيرة" “Le LAC”  للشاعر الرومانسي لا مارتين بعد أن هجرته حبيبته، فتحولت مشاهد الجمال والسعادة إلى مشاهد للبكاء والحزن والعزلة، وتحوّلت جماليات الطبيعة إلى محبطات، وكأنها تعمل هي الأخرى إلى جانب جماليات الحبيبة على الفتك بالعاشق المسكين، وهكذا يصبح الجمالي في النّص قاتلاً.

إن طواف الشاعر في البلاد من دون الحبيبة لا معنى له، وإنّما هو مصدر  غمّ وحزن، ولذلك فإنّ تفردّه كان في صبابته التي لا تعينه الحبيبة عليها، وكان تفرّده أيضاً في كآبته وفي عنائه، وهو لا يجد إنساناً يشكو إليه ماحلّ به، فيتوجه إلى البحر شاكياً باكياً، فإذا البحر هو الآخر يعاني ما يعاني الشاعر، حتى إنّ الصخرة الصّمّاء التي يجلس عليها هي الأخرى تتعرّض لمثل ما يتعرض له، وكأن الأمواج التي تفتّتها هي أمواج الأحزان التي تتلاطم في داخله، وتفتّت ما بقي من جسده الضعيف.

وهكذا يسلّمنا المقطع الرابع إلى فجوة صمت أخرى أقوى وأمرّ، هي فجوة العزلة والغربة والاغتراب النفسي، لنقف مع الشاعر إزاء لحظة التسريع الزمني، وهي لحظة طويلة غنيّة تسلّمنا إلى المقطع الخامس، أو تسلّمنا إلى لوحة الغروب النفسي، وكأنّ الشاعر يستقبل هذا الغروب بلهفة، فهو المنقذ من هذه المعاناة القاسية التي مرّ بها في المقطع الرابع، كما سلّمته إلى الرمز الشعري، فغدا الغروب مرادفاً للحظة الاحتضار والموت، وغدا الموت يعني الخلاص، فتحوّل الموت من معناه المعجمي إلى دلالته الانزياحية، ومن فاعليته في الحزن في الكلاسيكية إلى فاعلية الإنقاذ في الرومانسية، إنه يحبّب الموت إلى نفسه، فهو الملاذ الأخير (المازوخية).

ولذلك فإن هذا المقطع يبدأ بالتعجب من منظر الغروب (ياللغروب)، فقد دنت ساعة الخلاص، واقتربت ساعة الوصول بعد طول انتظار، ومالت الشمس إلى الزوال، وهذا يذكّر الشاعر بأنّ كلّ شيء في الحياة لابدّ له من الزوال، ولا يريد من ذلك زوال الحبيبة وزوال عمره، وإنما يقصد زوال الألم واستبداده، وهذه هي الشمس تقع صريعة، وكأنّ الأحزان تغلّبت على الشاعر فصرعته، وينقلب الفضاء إلى مأتم، أو كأنّه يتلمّس الموت العدمي ليتخلّص نهائياً من استبداد الأحزان والآلام.

ومع ذلك فإنّ الشاعر، في لحظته الأخيرة، في لحظة مابين الغروب والمساء، يودّع حبيبته، وكأنّها لم تسئ إليه قطّ، وقد تحوّلت، في لحظة الوداع، إلى أنثى نقيّة وفية، فيتذكّرها والنهار مودّع، وليس هذا النهار سوى نهار الشاعر أو عمره، حتى إن قلبه إزاء صورة الحبيبة الأسطورة يتوقف هائباً خاشعاً راجياً، فصورتها تبعث في نفسه الخشوع، وهو يرجوها كما يرجو العبد سيّده، وليس له في شفاعته سوى دموعه التي تتوحد بسنى الشعاع الغارب، وليس عمر الشاعر سوى بقيّة مما بقي من هذا الشعاع، وليس جسده سوى شبيه بتلك الذرا السود بعد أن غابت عنها شمس حياته (الحبيبة)، ثم تنتهي دموع الكون، ويظلم المكان، فلا نرى الشاعر، ولا نرى حبيبته، ولا نرى هذه الشمس، ليدرك الشاعر الرومانسي وحده أن يومه قد زال، وأنه رأى في مرآة الطبيعة مساءه هذا.

إنّ لحظات الصمت هذه تتضمّن النواة الدلالية في النّص، لأنها مشحونة بقوّة إيحائية صامتة، تستدرج القارئ إلى إكمال النص وإنتاجه، وتورّطه في البحث عن عناصر الغياب، ولذلك فإنها تستثير الجدل والتأويل من القارئ الذي يتساءل: لماذا جعل الشاعر مقطعاً أطول من آخر مع أن الموضوع الذي يعالجه واحد، وهو "المساء".

إنّ لحظات الصمت هذه تستثيرنا وتحرّضنا على معرفة مالم يقله الشاعر صراحة، وهو النص الغائب، أو النص المخبّأ بين السطور، أوالدلالة المسكوت عنها.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال