احتراف الرحيل والهطول في مجموعة (البحر والمرأة والعاصفة) لعبدالله بن صالح الوشمي

- ينطلق عبدالله بن صالح الوشمي في مجموعته (البحر والمرأة والعاصفة) في تأسيس (الرؤية) على اغتراب الفرد (غريبٌ أنا فاقدٌ وجهَه)، وتأخذ نصوص المجموعة هذا المسار مضيفةً إلى الاغتراب مفاهيمَ (الرحيل والخوف والوحدة).

والاغتراب هنا بمعنى الغربة؛ فالشاعر متصالح مع الواقع ومشكلته تكمن في بُعده عن الوطن:
هل تعرفينَ من أنا؟
يا أنتِ ياسيدةَ النخيلْ
مسافرٌ، معذّبٌ، قتيلْ
الله كم يعرفُني الرحيلْ
أنا الأزاهيرُ التي تهجرُها مواسمُ الرحمةِ والهطولْ
ماعُدْتُ ياسيّدتي
ما عُدْتُ مَنْ يملكُ أن يقولْ
غداً إذا جئتِ إلى قبورِنا
سوفَ ترينَ قاتلاً
يرحمُهُ قتيلْ

ويتسّرب هذا البعدُ إلى اغتراب المرأة، حيث لاحرية لها أمام قيود المجتمع القاسية:
أيقظتْ ليلَها وبدَتْ شاعرةً
كتبتْ كلَّ شيءٍ، ولكنها بقيَتْ حائرةْ
لم تجدْ نفسَها، لم تجدْ غيرَ أحزانِها، ورماداً صغيراً، يسمّونهَ ذاكرهْ
آهٍ أيتها الشّاعرةْ

- وتبدو صورة الفرد - في الرؤيا - من خلال الرغبة العارمة والحنين الجارف للاتحاد بالوطن، ففي الركن الأول للرؤيا لاتكتمل قوّة الفرد إلا من خلال اتحاده بالوطن، ولايكون الوطن جميلاً إلا في اتحاده بالفرد.

وتؤكد المجموعة ذلك من خلال نموذج الفرد المتكامل (52 و55 و80)، و طموح الفرد وثقته الكبيرة في تحقيق مايصبو إليه، وإصراره على الوصول إلى الوطن مهما كلّفه ذلك:
أريدُ أن أكونْ
سنبلةً مُثقلةً، أريدُ أن أكونْ
أو نبضةً الغصنِ إذا أزمع أن يكون
أو دورةَ الماءِ على الأرضِ إذا همَّ بأنْ
يبدأ رحلةَ الغصونْ
أريدُ أن أكونْ

أما اللقاء بالوطن والاستقرار فيه فهو الركن الثاني للرؤيا، ففي الاتحاد بين الأنا والوطن خلاصٌ من الاغتراب والسفر والوحدة والفراغ:
سلامٌ على وطني، سوفَ يبدأ بالعودةِ السندبادُ ، سيُحرِقُ كلَّ
المطاراتِ
لادارَ غيرُك يا وطني، أنتَ ظلِّي الذي سوفَ آوي إليهِ إذا ما
دَهَتْني رياحُ الزمنْ
سيّداً كنتَ ياوطني، وستبقى لنا زمناً في الزمنْ

وقد استخدم الكاتبُ التناصَّ ليعمّق صورة الفرد في الرؤية.
إن وضوح عناصر الرؤية في المجموعة انعكس إيجاباًَ على وضوح الرؤيا مما جعل النصوص في متناول المتلقي، ومن ثم في تقوية أواصر التفاعل بينه وبين جميع الحالات المجسّدة.

فالكاتب يركّز كثيراً على السندباد وقيس بن الملوّح.
فالأول مشغولٌ بالسفر، غريب عن وطنه، وهـو دائم الحنين إليه، والثاني (قيس بن الملوح) مشغول بالحبيبة، وهو يعاني من أزمة الفراق عنها بسبب القيود الاجتماعية، ولذلك كان يحسّ دائماً بالاغتراب والوحدة، ويطمح بالاتحاد بالحبيبة ولايكون توازنه إلا بها.

وقد أسقط الشاعر هذين الفعلين معاً على حالته ونجح.
إن كلاً من السندباد وقيس يبحث عن ذاته: السندباد في السفر، وقيس في ليلى، والشاعر في الوطن.

جميعهم مغترب، وجميعهم دائم البحث عن شِقِّه الآخر، وجميعهم متمسّك بهدفه وساعياً إلى تحقيقه ومصراً على الوصول إليه، وجميهم يمتلك حرارة وجدانية لامتناهية.

ومن التناص مع (أبو الهول) الذي يَرْبُضُ على بوّابة طيبة في مسرحية أوديب ملكاً لسوفكليس قولُ الشاعر معبِّراً عن حبّه الكبير لوطنه:
وطني
عندما بدأوا يعزفونَ على الحبِّ أوتارَهم
كنتُ وحدي أغني على معزفِكْ
ووحدي أنا كنتُ مـن ذبحَ الغولَ حين بدا رابضاً
فوق سورِ المدينة
وغداً سوفَ يغمرُنا المجدُ والطمأنينةُ
كلّما قلتُ: يا وطني

ومن التناص مع السندباد الذي أعطاه الشـاعر مساحة كبيرة من حيث الدلالاتين المكانية والنفسية قوله:
أنا مِن هنا، إنني السندبادُ الذي جاءكَ
اليومَ، أحرقَهُ الشعرُ والشوقُ. خلفي قراصنةُ
البحرِ، هاهم سيقتسمونَ بقايا الشموخِ على قاربي
وانظر كـذلك (12 و36 و48 و71 و73 و86و89).

إن الشاعر يبدأ المجموعة بسندباد ويُنهيها بسندباد.
فهو مهاجر دائم البحث عن الوطن وعن الحب وعن الاستقرار (وهذا يدخل ضمن حيّز الرؤيا).

وهو يكشفُ مقابل ذلك عن قلق الفرد المعاصر وعدم توازنه واغترابه، وبحثه الدائم عن ذاته (وهذا يدخل ضمن حيّز الرؤية).

- من حيث الشكل الجمالي هناك - في المجموعة - قلـقٌ واضح في تخيّر البناء المعماري؛ ففي المجموعة نقع على نمطين من البناء: التفعيلة، والعمود.

وهناك قصائد تتضمن النمطين معاً (20 و56 و58 و80)، ولكن الملاحظ أن الوعي الجمالي الذي يحكم هذين النمطين واحد.

أعني أنه على الرغم من أن لكل نمط عناصره التي تختلف عن النمط الآخر، ولكل منهما وعيُه الجمالي الذي يعطيه طابعاً مختلفاً عـن الآخر، لكن الشاعر نوّع في الأنماط بوعي واحد يتمثّل في وحدة التناول، ووحدة التعبير، ووحدة التركيب، ووحدة نظام الصورة، ووحدة الرؤية والرؤيا.

وكنا نتمنى أن يستقر الكاتب على نمط واحد مادام اللجوء إلى تنوّع الأنماط لايقدّم تنوعاً في أشكال البناء، إلى جانب أن الاتكاء على نمط واحد يوفِّـرُ للكاتب شكلاً من الخصوصية، ويعطي للحالة المجسّدة شكلاً من العمق والتركيز.

- ومـن المساحات التي تتعاطى معها المجموعة (الرومانسية الجميلة 46-47)؛ لا(الرومانسية البكائية) المحبِطة التي تجعل من التراجيدي مثلَها الأعلى.

وتنبع الرومانسية في المجموعة من ثلاث نقاط: التركيز على الألم الذاتي، والتغزّل بالوطن الحبيب، والتوحّد بالطبيعة الجميلة:
أنا هنا سيدةُ الصحراءْ
النوقُ والشعرُ وهذا الماءُ جميعُها جميعُها
تخرجُ من عباءتي السوداءْ
ووحدَهُ الليلُ ينامُ في دفتري
عاشقةٌ وعاشقٌ ولهانْ
والنارُ مازال رمادُ النارِ في اتّـقادِه
يُضيئُه الليلُ ، وفي هجودهِ أمنحهُ الأمان

ونستطيع التأكيد أن الرومانسية منحت أغلب النصوص سهولة في التعبير وسلاسة في نقل الحسّ الإنساني إلى حالة شعرية.

وتتكىء (شعريةُ النصوص) على التدفق الوجداني، والصورة الفنية ذات الطابع الحسي (على الرغم من أن المساحة الممنوحة لها بهذا المعنى ضئيلةٌ باعتبار الحضور القوي للبديل المتمثّل في التدفّق الوجداني)، وعلى النجاح في التناص، وعلى التعبير البسيط عن مجمل الحالات التي سعى الكاتب إلى تجسيدها أو التعبير عنها.

فهناك انطلاقٌ في العبارة بعيدٌ عن التكلّف والتصنّع.
إلى جانب ذلك انفتاح بعض الصور الفنية في المجموعة على مساحات مكانية وزمانية لامتناهية، أساسها المفارقة، والتباعـد بين العناصر المكوّنة لها، والدهشة:
مهاجراً يخرجُ من بلاطِها
يرمي على تخومِها النجومْ
يوغلُ في قراءةِ الحروفْ
يوغلُ في الهمومْ
يذكرُ عن بلادهِ
سؤالَها وليلَها الطويلْ
مُستَعْذِباً يُولَدُ في فراشِها
لكنه يسكنُ الغيومْ

إن مجموعة (البحر والمرأة والعاصفة) لعبدالله بن صالح الوشمي تفرض على قارئها نوعاً من التلقّي الخاص الذي يتميّز بالحرارة والعفوية والتفاعل والحميمية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال