تحليل المستوى الإيقاعي في قصيدة المساء لمطران خليل مطران.. التكرار المتساوق المطّرد الذي تقدّمه تفعيلات البحر الشعري

علينا أن نشير أولاً إلى أن النّص الذي نحن بصدده قد اتخذ من البحر الكامل هيكلاً إيقاعيّاً له، وهذا الهيكل صالح، قبل أن تدخل القصيدة في التشكيل والنسج والتلوّن بالتجربة الشعرية، لأن يكون ذا موضوعات مختلفة ودلالات مختلفة؛ فهو كاللوحة بلا لون، واللفظ في المعجم، يحتاج إلى تجربة جديدة ليحيا بها من خلال السياق الذي يمنح هذا الهيكل دماً جديداً وجسداً جديداً، وهنا جاء صوت الشاعر مطران، لينفخ في هذا البحر حياة جديدة، ولينشد من خلاله تجربته التي عاناها.

ودور الإيقاع في التكرار المتساوق المطّرد الذي تقدّمه تفعيلات البحر الكامل بين بيت وآخر كدور النبض في الجسد الحيّ، فالشاعر -هنا- يتّكئ على القافية من خلال حرف الروي وحركته ليندفع إلى البيت الذي يليه، كالنبض في القلب الحيّ الذي يتكئ على استمرار تدفق الدماء في الشرايين، وكالموجة التي تتكئ على سابقتها لتندفع من جديد، وتُعيد التجربة التي كانت، فالحضور يخفي تحت طيّاته وفي ثناياه غياباً، والغياب يتجلّى في الحضور، والسابق في اللاحق، ويتضمّن اللاّحق في جسديته وتجسيده السابق، وإذا كان الماضي في الحاضر، وكان الحاضر في الماضي، فهذا دليل أوّليّ على أن الشكل الذي تتَبنْيَنُ (STRUCTURALIT) فيه القصيدة عضوي، فالتجربة الصاهرة تتجلّى في لحظات القول، كما تتجلّى في لحظات الصمت في إيقاعية التفعيلات وتكرارها وفي لحظات الصمت القائمة في أمكنة الفراغات التي تفصل بين بيت وبيت أو بين شطرة وأخرى في البيت الواحد، وليست لحظة الصمت سوى لحظة يستقرّ فيها النغم الإيقاعي لحظة، لينهض من جديد في حركته، ويواصل التجربة الواحدة في رؤاها ونسيجها إلى لحظة الاستقرار الأخير والتبليغ.

وهكذا يكون ارتباط التفعيلة بالتفعيلة، والبيت بالبيت، والمقطع بالمقطع، وليس هذا الارتباط تشكيلاً صوتيّاً وحسب، وإنما هو ذو صلة بالدلالات التي تظهر في البنية السطحية والدلالات التي تخفيها تلك البنية أوتستبطنها، فالإيقاع الراكد يخلق الركود في النفس الإنسانية، ويشكّل الإيقاع السريع الحركات الانفعالية ويدفعها إلى التوتر، سواء أكانت حزينة أو راقصة، ثم إن التساوق في التفعيلات المتكررة في البيت الواحد يؤدي إلى التقارب بين الدلالات، وهو يقدّم، بشكل أو بآخر، دلالة رتيبة تعمق التجربة التي عاناها الشاعر، ولكن ليست هذه التفعيلات المتكررة الرتيبة سوى البنية السطحية التي تتجلّى لنا من خلال الأبيات بتراتبها وتساوقها وتماثلها، وهي تخفي في إيقاعيتها المستبطنة توتّراً نفسيّاً حادّاً تشير إليه لحظات الصمت من جهة والبؤر التركيبية الدالّة من جهة أخرى.

وثمة قيمة تعبيرية للصوت، ولانقصد بذلك قصدية اللغة كما عند الإغريق واللاتين وابن جنّي في "الخصائص"، وإنما نرمي إلى أنّ تراكم أصوات معيّنة أكثر من غيرها في البيت أو المقطع أو القصيدة يُشيع في النص مناخاً محدّداً، فتشابه البنية الصوتية يمثّل بنية نفسية موازية ومنسجمة ومتشابهة تستهدف تبليغ الرسالة بوساطة التكرار من خلال الترديد المتصل (الجمل المتشابهة المتقاربة مكانيّاً) أو المنفصل، وإذا توقفنا عند بعض العبارات الإيقاعية في هذا النص وجدنا أن التماثل الإيقاعي المتصل يهيمن على كثير من جمله الموسيقية، ومن أمثلة ذلك:
لم أنعم كذي جهل/ لم أغنم كذي عقل.

لاينبغي أن يُفهم هذا التشاكل التركيبي النحوي الذي يُنتج الإيقاع على أنه صناعة وحسب ولكنّه صناعة هادفة إلى تبليغ الرسالة بوساطة تعادل التراكيب النحوية أو إعادتها من خلال ألفاظ ذات إيقاعات متساوية تماماً، وقد نجد تماثلاً صوتيّاً متقارباً بين الأشطر المتجاورة في مثل قوله:
1- ياكوكباً من يهتدي بضيائه /يامورداً يسقي الورودَ سرابُهُ/ يازهرةً تُحيي رواعي حسنها.
2- نعمَ الضلالة حيث تؤنس مقلتي/ نعم الشّفاء إذا رويت برشفة/ نعم الحياة إذا قضيتُ بنشقة.
3- متفرّدٌ بصبابتي/ متفرِّد بكآبتي/ متفرِّدٌ بعنائي.
4- شاكٍ إلى البحر/ ثاوٍ على صخر.
5- أوليسَ نزعاً للنهار/ أوليس طمساً لليقين/ أوليس محواً للوجود.

إنّ الشاعر حرص على المساواة والتوازن في التعامل الإيقاعي بين الوحدات المجاورة، فكان ترديده متّصلاً، وإذا كان الترديد هنا شبيهاً بالتكرار، وهو سمة من أهمّ سمات الشعرية، فإنّ الشاعر لايقول، وإنما هناك بؤر لفظية أو تركيبية أو بنى مقطعية "STRUCTURES SYLLABIQUES" هي التي تقول، وهي التي تتمركز في واجهة النص وخلفيته، فتحدث المباطنة "INTةRIORISATION"، وتتواشج اللغة في اللغة من خلال إيلاج البيت بالبيت، والمقطع بالمقطع وتواشجهما، إلى أن يتماهيا تماهياً جسدياً، فيكون هذا التماثل والتماهي الصوتي المتصل نتيجة من نتائج تماثل الدلالات المتصلة في البيت أو المقطع وتواشجها، أو كما يقول جان كوهن: "تبقى المماثلة الوزنية والمماثلة الإيقاعية دليلين طبيعيين للمماثلة المعنوية" "10".

والقافية في هذا النص مكوّنة من متحرّك فساكن ومتحرّك فساكن، وقبل حركة حرف الروي ألف مدّ، يمتدّ من خلالها الصوت، ليقع بعدها من خلال حركة الروي (الهمزة المكسورة الممدود ماقبلها)، لتشير إلى السقوط إلى أسفل مع كلّ بيت، وكأنّ هذه الأبيات في حركتها الانكسارية المتكررة شبيهة بالحركة التي تشكّلها الأمواج، تنهض لتسقط، وهكذا، وكأنها تشير أيضاً إلى أنّ كلّ شيء في الحياة لابدّ من أن يصل إلى القرار والسقوط والنهاية، وهذا ما تقابله تجربة الشاعر مع حبيبته، وهي تجربة متصلة بحياة الشاعر كما تتحدّث الأبيات، فهي التي تسبّب له الأحزان، وهذه الأحزان المتراكمة تتغلّب على جسد الشاعر الضعيف، وتتكرّر الهاوية والحفرة عند كلّ رويّ في الأبيات الأربعين التي يتشكّل منها النص، ولكنّ الهاوية التي تصل إليها تجربة الشاعر ممثّلة بهذه الإيقاعية الرمزية، وهي بعيدة عن السرعة والعنف، وكأن النفس التي تتألم تحتضر على نار خفيفة، وتوترها العنيف استسلامي، فالنفس سجينة تختنق شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى النهاية، وهذا مايثبت أن التشكيل الإيقاعي في هذا النص هو تشكيل نفسي قبل أن يكون تشكيلاً صوتيّاً، أو كما يقول جان كوهن في علاقة القافية بالمعنى: "الحقيقة أنّ القافية ليست أداة، وليست وسيلة متعلّقة بشيء آخر، ولكنها عامل مستقلّ، أوصورة تضاف إلى غيرها، وهي مثل هذه الصور الأخيرة لاتبدد وظيفتها الحقيقية إلاّ إذا وُضعت في علاقة مع المعنى".
أحدث أقدم

نموذج الاتصال