بناء المنظور الروائي.. الروائي خالق العالم التخييلي، الذي يختار الأحداث والشخصيات والرواة دون الظهور مباشرة في النص القصصي

إن أول مَنْ تنبّه إلى فكرة (المنظور) في الرواية وعالجها علاجاً منهجياً هو بيرسي لوبوك Lubbock في كتابه (صنعة الرواية) عام 1954.

وإن مصطلح (المنظور) مستمد من الفنون التشكيلية، وهو يعني أن شكل أي جسم تقع عليه العين يتوقف على الوضع الذي ينظر منه الرائي إليه.

ثم نُقل هذا المصطلح إلى الأدب الروائي فعنى (الرؤية الإدراكية) للمادة القصصية التي تُقدّم من خلال نفس مدركة ترى الأشياء وتستقبلها بطريقة ذاتية تتشكل بمنطلق رؤيتها الخاصة: إيديولوجية كانت أو نفسية.

وعندما يقص الروائي فإنه لا يتكلم بصوته، وإنما يفوّض راوياً تخييلياً يأخذ على عاتقه عملية القص، ويتوجّه إلى مستمع تخييلي يقابله، وتسمى الشخصية التي يتكلم الروائي من خلالها (الأنا الثانية للكاتب).

وقد يكون الراوي غير ظاهر في النص، وقد يكون شخصية من شخصيات القص.
وهكذا فإن (الروائي) هو خالق العالم التخييلي، وهو الذي يختار الأحداث والشخصيات والرواة.

ولكنه لا يظهر مباشرة في النص القصصي. أما (الراوي) فهو أسلوب صياغة، أو بنية من بنيات القص، شأنه شأن الشخصية والزمان والمكان في العمل الروائي.

وهكذا فإن مسافة تفصل بين (الروائي) و (الراوي) إذ أن الراوي هو قناع من الأقنعة التي يتستّر وراءها الروائي لتقديم عمله.

ولكن (الراوي) بدأ يختفي تدريجياً في الروايات الحديثة، وكان أول مَنْ نادى بهذا المبدأ: فلوبير.
ثم اهتم النقاد بعلاقة الراوي بالشخصيات ومدى إحاطته بالوقائع التي يتكوّن منها العالم التخييلي.

وقد صنّف الناقد الفرنسي (جان بويون) هذه العلاقة في ثلاثة مواقف:
1ـ  الراوي > الشخصية (الراوي يعلم أكثر من الشخصية) الرؤية من الوراء.
2ـ  الراوي = الشخصية (الراوي يعلم ما تعلمه الشخصية) الرؤية مع.
3ـ  الراوي< الشخصية (الراوي يعلم أقل مما تعلمه الشخصية) الرؤية من الخارج.

(فالرؤية من الوراء) تتمثل في القص التقليدي، وتقوم على مفهوم (الراوي) العالِم بكل شيء، والذي يقدم معلوماته دون إشارة إلى مصيرها.
ويمثل بلزاك هذا الاتجاه أحسن تمثيل في الرواية الواقعية.

وعلى الرغم من أنه لم يظهر في رواياته كشخصية من شخصياته، فإن وجوده ملموس في التعليقات التي يسوقها والأحكام التي يطلقها والحقائق التي يدخلها على العالم التخييلي.

وقد أخذ (هنري جيمس) على هذا القص أنه يؤدي إلى التفكك وعدم التناسق، حيث إن الانتقال المفاجئ من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، دون مسوّغ، نتيجة التشتت وعدم الترابط.

ولذلك نادى بضرورة اختيار (بؤرة) مركزية تشع منها المادة القصصية أو تنعكس عليها.

وأما (الرؤية من الخارج) فإن الراوي فيها لا يقدم سوى ما يستطيع أن يخبره بحواسه، أي ما يمكن أن يُرى ويُسمع، ولا سبيل إلى معرفة ما يجوس في نفوس الشخصيات.

وقد عُرف همنغواي بهذا الأسلوب، كما عُرف في القصص التجريبي.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال