المال السياسي والإصلاح.. اغتصاب لسلطة التشريع من خلال شراء المقاعد النيابية بواسطة الثروة

بلدنا من البلدان الفقيرة ولم تظهر الثروة المادية كعامل ذات تأثير في النفوذ السياسي إلا في الآونة الأخيرة ـ العشر سنوات الأخيرة ـ بشكل خاص، حيث برز البعض ممن يملكون الثروة يطمحون إلى الاستحواذ على النفوذ السياسي، إلى جانب الثروة التي يملكونها، وفي كثير من الأحوال يفاجأ الناس بثروة هؤلاء، على الرغم من أن البعض منهم يعمل في التجارة، وفي قطاع العقارات على وجه الخصوص، والثروة التي يملكونها تفوق ما يمكن أن يجنيه هؤلاء، إلا إذا شابها نوع من الاستغلال والجشع في الربح.

العديد من هؤلاء من أصحاب رأس المال لا يملكون مؤهلا ثقافيا أو سياسيا، ولم يعهد عنهم أنهم يعملون في السياسة، ولا شأن لهم بالهم العام، مثل الانتماء للأحزاب السياسية، ولكن فيما يبدو أن ثقافة العولمة القائمة على الاستغلال والجشع، أصبحت سمة لبعض الناس من الرأسماليين، وهم بشكل أو بأخر يريدون الحصول على النفوذ السياسي، لدعم مشاريعهم وزيادة ثروتهم، من خلال اكتساب المشاريع التي تنفذها الدولة، أو أن لعابهم يسيل الى امتيازات المقعد النيابي، الذي غالبا ما يدر المال الوفير، بسبب فساد السلطة التنفيذية، التي تعمد في أحيان كثيرة لرشوة النواب، من أجل كسب الثقة عند تقدمها لنيل هذه الثقة، أو عند هدفها العمل على تمرير قانون ما، من خلال كسب تأييد النواب للموافقة عليه.

ومن أجل ذلك يلجأ العديد من المرشحين ممن يملكون ثروة إلى الترشيح للمقعد النيابي، ويقومون باستخدام المال في سبيل العديد من الفعاليات والنشاطات، لكسب تأييد الناخبين، ومنها دفع أموال نقدية، أو مساعدات عينية للمواطنين، أو دفع أموال للمنافسين لهم في الانتخابات، من أجل إفساح المجال لهم، ليكون حظهم بالفوز أكبر من سواهم، وتغض السلطة التنفيذية عن هؤلاء المحاسيب الذين فسدت ذممهم وضمائرهم، ليكونوا أداة طيعة في أيديها، لتكوين لوبي للحكومة داخل مجلس النواب، ومثل هؤلاء لا يهمهم الهم العام، ولا القيام بوظيفة عضو مجلس النواب المتمثلة بالتشريع، خاصة وهم يجهلون أبسط مفاهيم وظيفة التشريع، لأنهم يفتقرون للوعي السياسي وحتى الثقافي، فالربح المادي عندهم أهم من أي هدف سياسي أو مصلحة عامة، إلى جانب أن مثل هؤلاء غير قادرين على ممارسة وظيفة مراقبة الأداء العام للسلطة التنفيذية، لأن الوسيلة التي وصلوا من خلالها إلى مجلس النواب هي شراء الذمم، والولاء المطلق للسلطة التنفيذية، للتكسب من وراء هذا التأييد المطلق لها.

إن استخدام المال السياسي جريمة سياسية، فبالرغم أنه تجاوز على حق المواطنين في حرية الاختيار، فهو اغتصاب لسلطة التشريع من خلال شراء المقاعد النيابية بواسطة الثروة، التي يملكها أصحابها، وهو يعني خلق مجلس نيابي لا دور له بالعمل الذي ينتدب إليه ـ التشريع، ومراقبة أداء السلطة التنفيذية ـ، ووصول طبقة من المستغلين إلى تمثيل صناعة القرار، وهم آخر من يعمل في مثل هذه الوظيفة، وإتاحة الفرصة لتغول السلطة التنفيذية وأجهزتها على حقوق المواطنين.

إن استخدام المال السياسي اعتداء على الحق الجماهيري في الاختيار الحر لممثليهم في السلطة التشريعية، ومنع وصول كل من لا يملك مالا للوصول الى قبة البرلمان، وهو ما يتنافى مع حق المواطن في حرية الترشيح والانتخاب، وهو ما يجعل الوطن برمته مرهون لطبقة ذات أهداف تجارية، لا يهمها من الوطن إلا الربح، وتقديم الخدمات لمن يدفع أكثر.

ليس بالضرورة أن كل صاحب ثروة مجرد من إحساسه الوطني، لكن بالضرورة أن كل من يستخدم المال للوصول إلى السلطة، فهو فاسد ولا تهمه من الوطن إلا مصالحه الخاصة على حساب المصلحة العامة، ولهذا لابد من وضع حد لكل المرشحين، وحرمان أي من هؤلاء من فرصة الترشيح إذا ثبت أنه قام باستغلال ماله، وحتى نفوذه للتأثير على الاختيار الحر للمواطنين، إلى جانب حرمان كل مواطن من حقه في الترشيح، يقوم ببيع صوته الانتخابي لهذا المرشح أو ذاك من خلال تفعيل القوانين ذات الصلة، أو سن قوانين لها علاقة بذلك، إلى جانب تخويل الهيئة القضائية المشرفة على الانتخابات صلاحية اتخاذ القرارات الرادعة.

انه من الممكن تقصير فترة الترشيح لعضوية مجلس النواب، واقتصار الدعاية الانتخابية على وسائل الإعلام العامة، بحيث ينال جميع المرشحين دعاية انتخابية متساوية، إلى جانب أن معالجة القانون الانتخابي ـ الصوت الواحد ـ، والذي يتيح الفرصة لاختيار مرشح واحد على مستوى الدائرة الانتخابية الضيقة، يتيح المجال لاستخدام المال السياسي.

إن استخدام المال السياسي يمنع الوطن من بداية تدشين مرحلة التحول الديمقراطي، في عدم تمثيل الشعب بكافة فئاته وقطاعاته إلى مجلس النواب، لأن التمثيل هنا سيقتصر على أصحاب القدرة المالية، وهم فئة محدودة في المجتمع، لا علاقة لها بالوطن إلا من خلال مصالحها، وهو ما يعني أن المواطن سيصل إلى طريق مسدود في أمله بتحقيق فرصة الوصول إلى الممارسة الديمقراطية، ولا يرى من مرحلة الانتخابات إلا ما يغدق عليها من أصحاب الثروة، من شراء الذمم وإقامة الحفلات والولائم، التي لن تتكرر من هذا النوع من المرشحين، إلا مرة واحدة كل أربع سنوات، في حالة أن المجلس استطاع الصمود أمام سياسة الحل قبل انتهاء فترة ولايته.

المال السياسي جريمة في حق الوطن، واعتداء على حق المواطنين، لابد من وضع حد له قبل أن يستشري نفوذه، وهو ما لا يقبله وطن يتوق الى بناء دولة ديمقراطية، ترعى كل مواطنيها ومعبرة عن تطلعاتهم دون استثناء.

إن الدولة منوط بها أن تجند كافة عناصرها، لتوفير أجواء انتخابية مناسبة، وبعيدة عن أية محاولة للالتفاف عليها، وخاصة ما أصبح يرافقها من استخدام المال لشراء ذمم المرشحين واستمالة ولائهم، لانتخاب هذا المرشح أو ذاك، لأنه يشوه العملية الانتخابية، ويفقدها مضمونها ويجردها من أهدافها، التي تصب في مصلحة جميع المواطنين، ولا يجوز حصرها في مصلحة فئة محدودة، ممن يظنون أنهم بواسطة ما يملكون قادرون على شراء كل شيء، بما فيه السلطة السياسية.

غالب الفريحات
أحدث أقدم

نموذج الاتصال