فطرية النقد وسذاجة الشعر في مجموعة (ريش من لهب) لصالح العمري

يطالعنا صالح العمري فـي مجموعته (ريش من لهب) بشكل جديد من التأليف.
فهو يقدم في المجموعة نمطين من الكتابة معاً، النمط الأول الشعر، والنمط الثاني النقد.
فهو - على صعيد النقد - يشنُّ حملة شعواء على قصيدة الحداثة، ويسمّيها (الحداثة السوداء).

نحن لسنا هنا في صـدد السؤال: هل الحداثة سوداء أو بيضاء؟ ولكن أن يأتي كاتبٌ ما ويرمي الحداثة بكلام عام دون تفسير فهذا من الأمور المستغربة، وبخاصّة أن النقد تجاوز المرحلة الفطرية / الانطباعية منذ قرون.

ونحن لا ندري عن أي حداثة يتحدث، ومن همُ الشعراء الحداثيون الذين يقصدهم؟ فالحداثة حداثات، وشعراء الحداثة يختلفون كثيراً عن بعضهم بعضاً، بل إن كثيراً منهم قد يكون نقيضاً للآخر.

وأريد أن أبيّن أن الكاتب ورّط نفسه في موضوع لا يعنيه، فوقع في التناقض.
فهو مثلاً يشنُّ هجوماً على الشاعر نزار قباني لأنه - كما يرى - شاعرٌ حداثي، ولكن الذي فاته أن أكثر النقاد والشعراء يعدّون نزار قباني من أكثر الشعراء تقليداً، فهو ظل متمسكاً بالوزن والقافية في كل  كتاباته الشعرية، إلى جانب أن شـعراء الحداثة أنفسَهم يخرجونه من دائرتهم.

والأكثر من ذلك أن دعاة التقليد في الشعر يعدّونه منهم . فكيف إذن نوفّق بين ما قاله الكاتب صالح العمري عـن الحداثة وبين شاعر مثل نزار قباني؟ ماأودّ قولَه هنا أن الكاتب أوقع نفسه في إشكالين، أولهما: حشرَ مقولات نقدية في مجموعة شـعرية، على الرغم من أن موقعها في غير هذا المكان، وثانيهما: أنه أدخلَ نفسه في موضوع يبدو فيه جهلُه أكبرَ بكثير من علمه، فأطلق أحكاماً أقلّ ما يقال عنها  أنها متناقضة، وناقصة، وتفتقد إلى أدّلة، ثم إن الأمور الكبيرة - مثلَ التي تطرّق إليها - لاتُناقش بهذه العجالة، وبهذا السلوب.

فهي مشكلاتٌ عالقة لم يستطع النقد منذ خمسين عاماً أن يحسم الأمر فيها، إلى جانب أنه بإطلاقه مثل هذه الأحكام المتسرعة يُصادر على الآخرين أراءهم.

ومن المشكلات التي نتجت - من خـلال سعي الكاتب لممارسة النقد إلى جانب الشعر - أنه افتتح مجموعته بمقدمة من تسع صفحات نثرية ملأها بالأحكام الجاهزة التي لاتعني من الناحية العلمية شيئاً، إلى جانب أنه كان يفتتح بعض النصوص ببثّ آرائه النقدية أو بشرح أسباب كتابة النص . وهذا مما أضعف موقفه كشاعر.

لقد رفض الكاتب الحداثة وأدّعى أنه سيأتي بالجديد. فهل فعل ذلك؟
ولقد جاءت نصوص المجموعة على نمط المداخلات النقدية.
ونسجّل فيما يلي بعض ملاحظاتنا عليها:
تعاني جميع النصوص من قلق الانتماء إلى شكل جمالي محدد.

هناك خشونة في بناء (المواقف الوجدانية).
فجميع النصوص تعاني من الجلافة والقسوة، وكأني بالكاتب لايكتب شعراً، وإنما يشن حرباً بالسلاح الأبيض والطائرات.

ومن ذلك عبارات، مثل: (ريش من لهب وهو عنوان المجموعة، ورميتِ الشوق، ورياح الشوق تغزو، وبين أضلاعي رَبيتِ).

ومما يُعبِّر عن هذه الخشونة قوله، وهو في موقف الغزل:
سأذكرُ يا فتـاتي إن نسيتِ -- وأغرقُ في بحوري إن نأيتِ
وأزرعُ فيكِ من وردِ القوافي -- رياضَ الشوقِ حتى لو أبيتِ
رميتِ القلبَ في  حُلُمٍ جيءٍ -- من الشُّرُفاتِ من رمشٍ مميتِ
حنانَكِ لو رياحُ الشوقِ يوماً -- أتتْ تغزو ضفافَكِ ما غفيتِ
فإني قـد رمتني فـي سحيقٍ -- وأصرخُ  كلّما عني اختفيتِ

ومن نماذج القسوة قوله، وكأنه يخوض حرباً لا حالة حب:
الثلجُ فـي قممِ الخديـن والنارُ -- إعصـارُ نارٍ وثلجٌ  فيه إعصارُ
لهيبُها فـي بياضِ الثلجِ  متقدٌ -- جحيمُها رحمةٌ والحبُ أسرارُ
الوهجُ في خدّها والحرقُ في كبدي -- ولحظُها أسهمٌ  والهدبُ أوتـارُ
عواصفُ الحسنِ هبّتْ من لواحظها -- سِحرٌ أريجٌ  وأمطارٌ وأزهـارُ
عينانِ ذابلتان، الحسنُ  يسـكنها -- إذا سجتْ خلتُ أن الكون ينهارُ

ومن الملاحظات أيضاً وقوعُ النصوص تحـت هيمنة (أحادية المستويين الدلالي والجمالي)، أي إن مستواها يكاد يكون واحداً، فالمستوى الفني لها لايمايز بين طبيعة الحالات المجسّدة على اختلاف محتوياتها.

ولذلـك فاللغة جاءت ذات مستوى أحادي، ومثلها الصورة الفنية، والبناء.
فلا يختلف أسلوب الكاتب في الغزل عن الرثاء أو ركوب الخيل، أو الموت، أو المناجاة، أو المعارضة، وكذلك عن أي موضوع آخر تطرّقت إليه النصوص.

إن الأصل في الغزل مثلاً أن يفرض شكلاً من التعبـير يختلف عـن الحرب، وكذلك الموت والرثاء والمناجاة إيقاعاً وصورة ولغة ومن ثم بنية جمالية.

نريد الإشارة هنا إلى أننا لسنا ضدَّ أي شـكل يختاره الشاعر ليعبر من خلاله عن نفسه، فمن حق البلبل أن يغرد بالطريقة التي تُريحه.

ولكن ما حدث بالنسبة إلى الكاتب صالح العمري أنـه رفض تغريد الطيور الأخرى وأراد أن يغرد على طريقته، فجاء تغريده صراخاً وضجيجاً وأصواتاً متنافرة؛ ليس لأنه تبنّى البناء المعماري العمودي، وإنما لأنه قلّد ولم  يُحسن التقليد.

ومن الملاحظات التي نسجّلها هنا - إلى جانب ماتقدّم - أن كثيراً من النصوص كُتبت لمناسبات محددة، وهي تُعاني من المباشرة وعلو صوت الخطاب وأحاديةِ الأسلوب.

إن من أبسط علامات النثرية كتابةَ الشعر بناءً على تسلسل الإحداثيات الزمنية والخضوع للسببية المنطقية.
ونورد - فيما يلي - نصّاً تتوفّر فيه سمات  (النثرية) بامتياز، ولعلّه الأنموذج الأبرز بين نصوص المجموعة:
دنْ، دنْ، دنْ
هنا لندن
ودقّتْ لعنةُ الأجراسِ
تشنقُنا بأيدينا
وبسمِ الله
نشربُها
إذاعيونَ
محترفونَ
فيهم ليلُ نكهتِنا
من الأنباءِ قد خَلقُوا
جِراحاً
هَتْكُهَا فينا
فلا الأصواتُ نُنكرهُا
ولا الأنباءُ نُنكرها
ثغورُ الجمرِ
تمضغُنا
وتُحرِقُنا
وتنفثُنا
رماداً لاشرارَ به
تطيرُ به حكايانا
تبعثرُه زوايانا
ليُصلَبَ في أراضينا
لِيـُقْبرَ في أراضينا
وأعتقد أن النص يدلّلُ على نفسه، ولايحتاج إلى أي تعليق.

أخيرا، نصيحتي للكاتب صالح العمري أن يوجّه جهدَه إلى نمطٍ واحد من الكتابة: الشعر أو النقد.
وما بدا لنا أنه لم ينجح في الاثنين. فنحن لم نقع على وعي الناقد أو دهشةِ الشاعر.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال